دراسات الإعلام و الرأي العام

تفكيك الخطاب الإعلامي الإثيوبي حول سد النهضة: المغالطات الفنية

طوال تاريخ العلاقات الثنائية بين البلدين لم تنكر مصر حق دولة إثيوبيا في استغلال الموارد الطبيعية الموجودة في أرضها أو المارة بها من أجل تحقيق التنمية. ولكن عندما ترتبط المشروعات الإثيوبية بنهر النيل الذي تشترك فيها مع دول أخرى، ويرتبط وجود شعوبها به، هنا يجب على جميع الأطراف أن تتفاوض، وتتعاون بحسن نية لتقليل أي خسائر محتملة، وتعظيم الفوائد المشتركة.  ورغم بديهية هذه الحقائق، جاء واقع المفاوضات المضنية حول مشروع سد النهضة طوال عقد من الزمان، بين دولتي المصب مصر والسودان، ودولة المنبع إثيوبيا، كاشفًا عن تشدد إثيوبي في كل نقاط التفاوض الفنية، وهو ما برز بوضوح في ضرب إثيوبيا…

خالد البرماوي

طوال تاريخ العلاقات الثنائية بين البلدين لم تنكر مصر حق دولة إثيوبيا في استغلال الموارد الطبيعية الموجودة في أرضها أو المارة بها من أجل تحقيق التنمية. ولكن عندما ترتبط المشروعات الإثيوبية بنهر النيل الذي تشترك فيها مع دول أخرى، ويرتبط وجود شعوبها به، هنا يجب على جميع الأطراف أن تتفاوض، وتتعاون بحسن نية لتقليل أي خسائر محتملة، وتعظيم الفوائد المشتركة.

 ورغم بديهية هذه الحقائق، جاء واقع المفاوضات المضنية حول مشروع سد النهضة طوال عقد من الزمان، بين دولتي المصب مصر والسودان، ودولة المنبع إثيوبيا، كاشفًا عن تشدد إثيوبي في كل نقاط التفاوض الفنية، وهو ما برز بوضوح في ضرب إثيوبيا تقارير لجنة الخبراء الدولية International Panel of Experts (IPoE) عرض الحائط، والتي شارك خبراء إثيوبيون في عضويتها؛ حيث قامت برفضها رفضًا قاطعًا، وهو ما تكرر مرة أخرى مع تقارير المكاتب الاستشارية، ومع أي محاولة جادة لتقييم السد وآثاره تقييمًا دقيقًا موضوعيًا. 

هذه المواقف الإثيوبية تثير الكثير من الشكوك بشأن أمرين؛ أولهما: حقيقة استعداد إثيوبيا بدراسات فنية كافية لتنفيذ مثل هذا المشروع الضخم، وثانيهما: استعداد إثيوبيا للتفاوض بمرونة ونية حسنة لحسم الخلافات الفنية الجوهرية ذات الصلة بمخاوف دولتي المصب، خاصة تلك المخاوف المتعلقة بحجز المياه أو بانهيار السد.

في هذا الإطار، تعرض الورقة الموقف الإثيوبي المريب والمتناقض من الأبعاد الفنية لسد النهضة، وذلك من خلال الاستناد إلى مصدرين رئيسيين، هما تصريحات المسئولين الإثيوبيين أنفسهم، وتقارير الأطراف الدولية المحايدة المشاركة في عملية التفاوض، أو المعنية بها.

أولًا- حجم وسعة خزان سد النهضة 

من بين القضايا الفنية الأكثر إثارة للجدل حول سد النهضة ما يتعلق بسعة خزان السد، التي تقرر أن تكون أضعاف الاحتياج الفعلي لتوليد الكهرباء، خاصة مع الإصرار الإثيوبي المستمر على أن يتحمل الجانبان المصري والسوداني كافة التأثيرات السلبية المتوقعة، جراء ملء السد الأول وخلال سنوات الجفاف المحدود والممتد.

أحد الأدلة على ذلك، تصريح السيد زريهون آبي عضو الفريق التفاوضي الإثيوبي بشأن سد النهضة الذي قال نصًّا: “في حالة حدوث جفاف لنهر النيل، يتعين على مصر وإثيوبيا مواجهته معًا باعتباره ظاهرة طبيعية”، ولم يقل مثلًا، فلتتعاون الدول الثلاث لتخفيف الأضرار المحتملة من السد الإثيوبي!

وعوضًا عن تقديم التسهيلات، وإظهار مرونة أثناء المفاوضات، أخذ الجانب الإثيوبي في زيادة المواصفات الفنية المستهدفة أثناء جريان المفاوضات، مثل: زيادة الطاقة المستهدفة من السد، وزيادة حجم خزان السد، وزيادة ارتفاع طول السد، وتعقيد عملية ملء وتشغيل السد.

وبالعودة للدراسات الأولية التي استند إليها مشروع سد النهضة (بأسمائه المختلفة التي تغيرت عبر السنوات: السد X، سد الحدود، سد الألفية، وأخيرًا سد النهضة الإثيوبية الكبرى)، نجد أن هذه الدراسات وُصفت من قبل المتخصصين بمن فيهم أعضاء لجنة الخبراء الدولية IPoE بأنها قديمة وتعود لأكثر من نصف قرن. ومرد هذا الخطأ هو أن إثيوبيا اعتمدت –دون أي تحديث- على التقرير الفني الذي نفذه المكتب الأمريكي لاستصلاح الأراضي United States Bureau of Reclamation (USBR) لصالح إثيوبيا في عام 1964، واقترح فيه وقتها بناء أربعة سدود صغيرة ومتوسطة الحجم. وذُكر في هذا التقرير أن سعة خزان السد المقترح بقرب الحدود السودانية (موقع سد النهضة) لا يتجاوز 11.1 مليار متر مكعب. وطوال فترة المفاوضات، لم تقدم إثيوبيا أي دراسة مستقلة تم إجراؤها في تاريخ أحدث بشأن بناء السد.

وبتاريخ 13 مارس 2011، نشرت وكالة رويترز للأنباء تصريحات رسمية على لسان رئيس الوزراء الإثيوبي في هذا الوقت ميليس زيناوي، ذُكر فيها أن السد سيقوم بإنتاج 5000 ميجاوات من الكهرباء في غضون من 5-10 سنوات. ومع الإعلان عن السد بشكل رسمي في مارس 2011، ودون إخطار دول المصب كما تقتضي الاتفاقات الدولية للأنهار المشتركة، فوجئت اللجان الفنية الإثيوبية نفسها بزيادة حجم خزان السد ليصل إلى 63 مليار متر مكعب، أي تقريبًا 5 أضعاف الدراسات الأمريكية للمشروع.

ولم يتوقف الأمر عند هذا، فمع تقدم المفاوضات زاد حجم السد مرات عدة، ليصل إلى 74 مليار متر مكعب!، وزادت الطاقة المستهدفة أيضًا أثناء المفاوضات، كما هو موضح في الوثائق، مرة إلى 6000 ميجاوات، ثم 6450 ميجاوات، وأخيرًا 7000 ميجاوات، وهو نفس ما جرى بشأن الإعلان الإثيوبي عن عدد توربينات توليد الكهرباء من السد التي تغيرت مواصفاتها وأعدادها أكثر من مرة، وكذلك ارتفاع السد أيضًا الذي زاد من 145 مترًا إلى 155 مترًا. 

ثانيًا- الموقع المتغيّر لسد النهضة

يمثل الموقع الجغرافي لسد النهضة الإثيوبي لغزًا كبيرًا، فلو سلمنا بأن الهدف من المشروع هو توليد الطاقة فقط، فهناك بدائل جغرافية متعددة بمواصفات فنية أفضل لإقامة سد جديد في إثيوبيا، كما حدث مع سدود أخرى بنتها إثيوبيا من قبل، والكثير من إنتاج هذه السدود من الكهرباء يذهب للتصدير للخارج، وليس لتغطية العجز الكبير في إنتاج الطاقة الكهربائية في الداخل الإثيوبي الذي يستخدمه آبي أحمد رئيس الوزراء الإثيوبي كذريعة أمام المجتمع الدولي لبناء سد النهضة بهذا الحجم. 

وبحسب مجلة “التنمية الدولية” Development Today فإن أحد المواقع البديلة لسد النهضة كان سيوفر طاقة مقاربة للمستهدف الواقعي، وبتكلفة أقل كثيرًا من تكلفة بناء سد النهضة، وبسنوات إنجاز أقل، والأهم أنه لم يكن ليسبب أي ضرر لأي من جيران إثيوبيا المشتركين معها في النيل الأزرق.

فقد تعمدت إثيوبيا اختيار موقع السد ليكون ملاصقًا حرفيًّا للحدود السودانية، حيث يقع جسد السد الرئيسي على بعد أقل من 15 كم فقط من الحدود السودانية، لتجنب تضرر إثيوبيا من أي تداعيات متوقّعة من جراء تشقق السد أو انهياره بالكامل، فضلًا عما يمنحه هذا الموقع لإثيوبيا من قدرة على التحكم في مجرى النيل الأزرق من أقرب نقاط جريانه نحو السودان ومصر. 

وكالعادة، بدأت المغالطات الإثيوبية مبكرًا، منذ الإعلان الأول عن المشروع في عام 2011، حيث ذكرت وسائل الإعلام الإثيوبية الرسمية في نقلها لخطاب رئيس الوزراء “ميليس زيناوي” أن السد يقع على بعد 40 كم من الحدود السودانية، وهو ما ثبت بعد ذلك أنه جزء من سياسة التضليل الرسمية، حيث تُعد المسافة الحقيقية بين السد والحدود السودانية نحو ثلث المسافة المعلنة. هذا في الوقت الذي يبعد فيه السد عن العاصمة أديس أبابا بمسافة 750 كم كاملة، ويبعد مئات الكيلومترات عن مناطق تركز السكان الرئيسية في إثيوبيا، وفي غياب لشبكة متكاملة لنقل الكهرباء المتولدة عن السد لمناطق الاستهلاك المتوقع.

ثالثًا- الغرض الحقيقي من بناء السد

لا تتعلق المغالطة الوحيدة المتعلقة بموقع السد بقربه من الحدود السودانية، فقد أشار تقرير لجنة الخبراء الدولية  IPoE الصادر عام 2013، والذي شارك في إعداده خبراء من مصر وإثيوبيا والسودان بجانب خبراء مستقلين، إلى وقوع السد في منطقة صخرية غير مستقرة، ومعرضة لخطر الزلازل والانزلاق حسب وصف اللجنة، وبما يشكل خطورة على جسد السد. هذا بالإضافة إلى أن سد النهضة يقع بين تلين كبيرين بارتفاع 600 متر لكل منهما. مع الأخذ في الاعتبار أن متوسط انحدار مجرى النيل الأزرق في الأراضي الإثيوبية حاد للغاية، ويبلغ من منبع النيل الأزرق -حيث بحيرة تاتا- 1786 مترًا عند وصوله لموقع السد، وهذا من شأنه الضغط بقوة على جسد السد، وفقًا لدراسات الدكتور أسفاو بييني Asfaw Beyene أستاذ الهندسة الميكانيكية الإثيوبي بجامعة ولاية سان دييجو الأمريكية، والذي يرى أن اختيار موقع سد النهضة يعود لإمكانيات الري من خلال خزان السد، بسبب سهولة الوصول نسبيًّا إلى الأرض المسطحة وانخفاض عملية الجرف من المنبع. 

وعلى الرغم من أن الشواهد العلمية تؤيد اختيار موقع السد لاستغلاله في أغراض الري والزراعة لا لتوليد الكهرباء، جاءت تصريحات وزير الخارجية الإثيوبي الأسبق برهاني جبريكريستوس Berhane Gebre-Christos في عام 2013 لتنفي هذه الحقيقة، حيث أعلن أن “سد النهضة سوف يستخدم فقط لتوليد الكهرباء، وليس للري، وأنه مستحيل من الناحية التقنية استخدام السد لأي أغراض زراعية”، وهو ما تكرر لاحقًا مرات عدة في تغطية “نيويورك تايمز” لقضية السد في زيارة ميدانية، وذلك على لسان المدير التنفيذي السابق للمشروع المهندس سيمينيو بيكلي، والذي أعلن عن مقتله في ظروف غامضة في 2018. 

هذه السردية الرسمية الإثيوبية تم توظيفها من أجل تحييد المخاوف المصرية، بالادعاء بأن السد المشيد لتوليد الطاقة كغرض رئيسي سيتطلب تمرير أكبر قدر من المياه عبر فتحاته للمرور على توربينات التوليد، ومن ثم لن يكون من صالح إثيوبيا احتجاز كميات كبيرة من المياه في خزان السد لفترة طويلة. بينما جاء الإعلان عن تخفيضات متوالية في عدد التوربينات ومن ثم في حجم الطاقة المتولدة من السد ليؤكد أن الغرض الإثيوبي هو احتجاز المياه واستغلالها وليس تمريرها لتوليد الكهرباء.

على هذا النحو، يكشف الخطاب الإثيوبي بشأن سد النهضة عن قدر كبير من الارتباك وسوء النية الذي تجسد بوضوح في تغيير حقيقة المعلن من معلومات فنية بشأن حجم السد وموقعه والغرض منه، فضلًا عن التناقض الكبير في تصريحات المسئولين الإثيوبيين أنفسهم بشأن السد من مرحلة لأخرى. وإذا كان طابع التناقض والمغالطة قد طال الجوانب الفنية من الخطاب الإثيوبي بشأن السد بما لهذه الجوانب من طابع تقني يفترض أن يعتمد فقط على الحقائق، فإن الخطاب السياسي الخاص بالتعليق على عملية التفاوض والأهداف السياسية للمشروع جاء محملًا بحمولة مضاعفة من المغالطات والأكاذيب والتناقضات، وهو ما سيكون موضوعًا لورقة تالية.

خالد البرماوي