أعلنت د. هالة السعيد وزيرة التخطيط القديرة أن معدل النمو المصري في العام المالي الراهن ٢٠١٩/٢٠٢٠ بلغ ٣٪ وهو معدل إيجابي يزيد علي معدل النمو السكاني، ويفوق الكثيرين من دول العالم التي غلب عليها النمو السلبي بسبب أزمة الكورونا. الأمر هكذا فيه نوعين من الألم أولهما أن معدل العام الحالي كان أقل من العام الماضي ٥.٦٪، كما كان أقل مما كان مقدرا وهو ٥.٩٪ تمهيدا لمعدل ٦٪ على الأقل في العام الذي يليه. ما حدث هو أننا لمن نتراجع، وإنما تباطأ النمو لدينا، ويعود الفضل في ذلك إلى السياسة التي حافظت على استمرار المشروعات القومية؛ وحاولت قدر الإمكان مساندة الصناعة القائمة خاصة وعامة؛ ولم تستنكف الدولة من الإبقاء على بعض الأنشطة حتى في القطاعات التي اكتسحها الوباء مثل السياحة لعل العام لا يكون خسارة كله. الخلاصة أن المعدل الذي أبقينا عليه كان نتيجة تفكير وجهد حاول إبقاء المسيرة المصرية في طريقها، قد تختلف جماعة منا مع ذلك وتري أنه كان ممكنا بطرق أخري الوصول إلى ما هو أفضل؛ ولكن ذلك لا يأخذ عادة اعتبارات اجتماعية في الحسبان، واعتبارات للأمن القومي أخذت تطرق حصوننا من الجنوب في إثيوبيا ومن الشمال من تركيا ومن الشرق من الإرهاب ومن الغرب في ليبيا. المحصلة رغم ذلك كله ظلت إيجابية في مناطحتها للضربات التي توالت من تراجع في تحويلات المصريين العاملين في الخارج (٢٧ مليار دولار)، ودخل السياحة (١٣ مليار دولار)، وقناة السويس، والصادرات، والتعامل مع وضع عالمي انهارت فيه اقتصاديات دول كبري وعظمي، ووضع إقليمي أضيفت فيه الكورونا إلى انهيار أسعار النفط.
الآن نقترب من منتصف العام ٢٠٢٠، وندخل بعد أيام إلى العام المالي ٢٠٢٠/٢٠٢١، ووفقا للتقديرات الحالية فإنه من الممكن أن يصل معدل النمو إلى ٤٪، على أن يزيد بعد ذلك إلى ٦٪ السحرية التي نبحث عنها منذ أعوام بعد ذلك. ولكن الحقيقة هي أن قدرنا، وقدر القيادة المصرية، أن نبحث في العام المالي القادم عما هو أكثر ليس فقط لتعويض كل ما خسرناه، أو لمواجهة ارتفاع المديونية المصرية، وأخطار الزيادة السكانية، وإنما لأنه بدون استمرار البناء والتقدم المصري فإن الفرصة الراهنة سوف تفقد قوة اندفاعها. هناك بعض البشائر التي ولدت خلال الأزمة ومن الممكن للتأكيد عليها وإنجازها بالسرعة الكافية أن يكون لها عائد يضاف إلى جهود العام المالي المقبل بعد أيام. أولها ما تم منذ فترة قصيرة من إحياء القطاع العام أو قطاع الأعمال بتحويله من القانون ٢٠٣ الذي يضعه في مصاف الخدمات الاجتماعية للتشغيل والإنتاج، إلى القانون ١٥٩ الذي يحوله إلى وحدات إنتاجية ومنافسة، تخضع لقواعد الربح والخسارة، والصمود في المنافسة أو الإفلاس. هذا المذهب كان ما ذهبت إليه الصين الاشتراكية سابقا لحسم الأمر فيما يتعلق بقطاعها العام الذي كان منتشرا ما بين محلات قص الشعر إلى شركات الفضاء. انتهي الأمر بالشركات العامة أن سبحت في بحار الاقتصاد الصيني الضخم والممتلئ بالشركات العالمية الكبرى حتى لا تعرف الفارق ما بين شركة “علي بابا” الصينية، وشركة “أبل” الأمريكية من حيث القواعد واستخدام الأصول والحركة في السوق الداخلية والخارجية.
وثانيها أننا أدركنا قيمة ما لدينا بالفعل من شركات صناعية وما كان يعطلها من لعنات بيروقراطية جعلتها تحصل على الطاقة بأكثر من أسعارها العالمية، وبات من الممكن أن نبحث عن ممارسات عادلة تساعدها على التصدير واستجلاب عملات صعبة وتشغيل المزيد من العاملين. وضمن هذا الإطار فإن القطاع الزراعي، وصادراته الغذائية، مصنعة أو خام، وجدت لها وسط الأزمة العالمية سوقا رائجة في السوق المصرية والإقليمية العربية والأوروبية. كانت الأزمة بما فرضته من تباعد وسعي لتفادي الزحام فرصة للتمادي في الانتشار خارج الوادي المصري الضيق إلى الساحات الواسعة للصحاري والشطآن في مدن جديدة قوية وعفيه تترجم انتقالا حضاريا تاريخيا من النهر إلي البحر، وما بقي هو تشغيل كل ما انتهينا منه من مدن وأقاليم.
وثالثها أن التنظيم الإداري المصري فرض نفسه على طاولة النقاش العام لأكثر من مرة منذ أعلن الرئيس السيسي أولا أنه لا ينبغي أن تتوسع العشوائيات ونحن نحاول تقليصها؛ وثانيا أن المخالفات الواقعة على المخالفين لابد وأن تعني شيئا، فيكون توقيع الجزاءات عليهم. وثالثا أن المحافظين عليهم ممارسة سلطات رئيس الجمهورية في جمهورياتهم الصغيرة. ورابعا أنه حتى يتم ترتيب البيت لابد من وقف اصدار التراخيص الخاصة بالبناء لمدة ستة شهور. النتيجة كانت التفكير في طرق أخري لمنح التصاريح بعيدا عن الطرق الحالية التي قيل عنها في نظام سابق أن الفساد كان فيها حتى “الركب”. ما يلي ذلك وهو واجب على الحكومة ومجلس النواب، وأخذا في الاعتبار دروس معالجات أزمة الكورونا، أن يترجم الأمر إلى تقنين المواد الدستورية في “الفرع الثالث” من السلطة التنفيذية “الإدارة المحلية” التي تبدأ من المادة ١٧٥ وحتى المادة ١٨٣. ثمانية مواد تكون ترجمتها القانونية كفيلة بدفع قدر هائل من الحيوية والدينامية في أعصاب الحياة السياسية والاقتصادية المصرية.
ورابعها أنه على الأغلب فإن العالم سوف يكون مشغولا خلال العام القادم بتلافي آثار الأزمة ومن ثم فإن محاولتنا لتلافيها عليه أن يعتمد على الذات وحقيقة السوق المصرية الكبيرة، والسوق الإقليمية القريبة سواء كان ذلك في استئناف السياحة أو الإضافة إلى السوق الرقمية، أو كما تم الوعد به بالفعل مؤخرا استخدام رؤوس الأموال والمهارات العائدة من الخارج في تنمية قوة العمل المصرية من ناحية، وتحويلها إلى استثمارات في إطار “رؤية مصر ٢٠٣٠”. إن دفعة لقوة مصر الناعمة في محتويات رقمية في هذا الإطار تجعل من العام المالي القادم منصة انطلاق وقفزة مصرية واعدة إلى نهاية العقد الحالي.
نقلا عن جريدة الأهرام، ١٧ يونيو ٢٠٢٠.