الدراسات العربية والإقليمية

توسع الحراك: الجنوب العراقي وأزماته الممتدة

في سياق عودة انعقاد مجلس النواب العراقي للمرة الأولى منذ شهرين، عادت دورة الاحتجاجات في العراق يوم الثامن والعشرين من سبتمبر للتجدد مرة أخرى، حيث احتشد المتظاهرون الذين يُعتقد أنهم من أنصار التيار الصدري في المنطقة الخضراء الشديدة التحصين، والتي تضم مباني حكومية وبعثات أجنبية، في العاصمة العراقية بغداد، التي شهدت أيضًا في وقت لاحق قصفًا صاروخيًا مستهدفًا محيط البرلمان. لم يتوقف مشهد الاحتجاجات عند محيط المنطقة الخضراء بالعاصمة العراقية، وإنما امتدت الاحتجاجات إلى عدد من المناطق الجنوبية في محافظات البصرة، وذي قار وميسان، وذلك رفضًا لانعقاد جلسة مجلس النواب. وفي البصرة على وجه التحديد، اقتحم المتظاهرون مبنى المحافظة، وسيطروا…

نوران عوضين
باحث بوحدة الدراسات العربية والإقليمية

في سياق عودة انعقاد مجلس النواب العراقي للمرة الأولى منذ شهرين، عادت دورة الاحتجاجات في العراق يوم الثامن والعشرين من سبتمبر للتجدد مرة أخرى، حيث احتشد المتظاهرون الذين يُعتقد أنهم من أنصار التيار الصدري في المنطقة الخضراء الشديدة التحصين، والتي تضم مباني حكومية وبعثات أجنبية، في العاصمة العراقية بغداد، التي شهدت أيضًا في وقت لاحق قصفًا صاروخيًا مستهدفًا محيط البرلمان.

لم يتوقف مشهد الاحتجاجات عند محيط المنطقة الخضراء بالعاصمة العراقية، وإنما امتدت الاحتجاجات إلى عدد من المناطق الجنوبية في محافظات البصرة، وذي قار وميسان، وذلك رفضًا لانعقاد جلسة مجلس النواب. وفي البصرة على وجه التحديد، اقتحم المتظاهرون مبنى المحافظة، وسيطروا عليه لفترة وجيزة، قبل أن تجبرهم شرطة مكافحة الشغب على الخروج. 

وفي يوم الخميس التاسع والعشرين من سبتمبر، أعلنت الشرطة العراقية سقوط أربعة صواريخ بالقرب من المنطقة الخضراء تم إطلاقها من شرق بغداد. وتشير عودة الاحتجاجات وما يصاحبها من مسارات تصعيدية إلى استمرار ما يعيشه العراق من حالة تنافس سياسي ممتد منذ أشهر مضت، ومن ثم ابتعاد أفق حل الانسداد السياسي الراهن. وعلى الرغم من استحواذ التصعيد الراهن في المنطقة الخضراء ببغداد على القدر الأكبر من التركيز والاهتمام الإعلامي، فإن ما شهدته المحافظات الجنوبية، ولا سيما البصرة، من احتجاجات وتصعيد لا يقل أهمية عما يحدث بالعاصمة.

الحركة الاحتجاجية بالجنوب العراقي 

لا يعد مشهد الاحتجاجات بمثابة الأمر الجديد أو المستحدث في مناطق الجنوب العراقي، حيث بات هذا المشهد ظاهرة معتادة منذ عام 2018، بل يمكن القول إن استمرارية هذه الاحتجاجات كانت بمثابة الممهد التي أدت إلى انطلاق حراك أكتوبر (تشرين) 2019.

وتمثلت البداية الفعلية للاحتجاجات الجنوبية في يونيو 2018 من محافظة البصرة، للمطالبة بتحسين الخدمات. امتدت الاحتجاجات بعدها إلى باقي المحافظات الجنوبية الأخرى ذي قار، وميسان، وبابل، والنجف، والديوانية للمطالبة بتحسين الأوضاع المعيشية ومكافحة الفساد والتصدي للبطالة وارتفاع الأسعار. وفي يوليو 2018، تنامت الاحتجاجات إلى حد مهاجمة المتظاهرين لبعض المقار الحكومية المحلية، وتوقف العمل بميناء “أم قصر” أكبر موانئ محافظة البصرة، لعدة أيام، بل ومحاصرة مقر إقامة رئيس الوزراء العراقي السابق “حيدر العبادي” خلال زيارته إلى البصرة ومطالبة المحتجين مغادرته ورفضهم اللقاء معه. بالإضافة إلى اقتحام المتظاهرين مطار محافظة النجف والسيطرة عليه بشكل كامل، علاوة على محاصرة منزل محافظ ذي قار ومبنى المحافظة، ونصب الخيام في محافظة بابل أمام مبنى مجلس المحافظة، وقطع الطريق الذي يربط محافظتي البصرة وبغداد

ومع استمرار شدة الاحتجاجات، لجأت الحكومة العراقية إلى تهدئة غضب المحتجين عبر إصدار عدد من القرارات التي تمثلت في “تخصيص ثلاثة مليارات دولار لتنمية المحافظات الجنوبية، والإعلان عن عدد من فرص العمل، وتوسيع شبكات الكهرباء، وبناء محطات تحلية المياه، وأن تقوم وزارة الكهرباء بالاتفاق مع المملكة العربية السعودية وإيران لاستيراد الكهرباء منهما لتزويد المحافظات الجنوبية باحتياجاتها، وإقالة العديد من المسئولين والقيادات الأمنية واستبدالهم بشخصيات وقيادات أخرى”.

لكن لا يبدو أن أيًا من هذه القرارات قد أسهم في تهدئة حدة الغضب المتزايد لدي متظاهري الجنوب، الذين عادوا مجددًا إلى التظاهر في سبتمبر 2018، بل ووصلت حدة تظاهراتهم إلى قيام المحتجين بإضرام النار في مبنى القنصلية الإيرانية بالبصرة تعبيرًا عن رفض الفساد السياسي. وصولًا إلى ديسمبر 2018، حين تجددت الاحتجاجات من جديد في البصرة تزامنًا مع زيارة وزير المالية حينها “فؤاد حسن” إلى المحافظة.

ومع انطلاق حراك أكتوبر (تشرين) 2019، اشتدت حدة التظاهرات التي خرجت عن النطاق السلمي وامتدت إلى حرق وإلحاق الضرر بعدد كبير من المقرات الحكومية والحزبية، الأمر الذي دفع الحكومة العراقية إلى فرض حظر التجول في محافظات الديوانية وبابل والمثنى والبصرة وواسط وذي قار وميسان.

وبحلول الذكرى الأولى لحراك تشرين 2019، فرضت الحكومة العراقية في نوفمبر 2020 حظر تجول على نفس المحافظات السابق ذكرها، وذلك على خلفية أعمال عنف صاحبت الموجة الجديدة من الاحتجاجات المطالبة بمحاربة الفساد وتوفير الخدمات وفرص العمل. 

وفي فبراير 2021، شهدت الحركة الاحتجاجية الجنوبية نشاطًا جديدًا تمثل في تظاهر المحتجين في محافظة ذي قار لمدة خمسة أيام متتالية للمطالبة بإقالة المحافظ “ناظم الوائلي” لاتهامهم إياه بـ”الفساد وسوء الإدارة”. وعلى الرغم من استجابة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي لمطالب المتظاهرين، إلا أن المظاهرات استمرت في ذي قار، بل وامتدت إلى بابل، والنجف، والديوانية، مطالبين بتحسين مستوى المعيشة والأوضاع الاقتصادية ومحاسبة المسئولين الفاسدين. كما تجددت المظاهرات الجنوبية في ديسمبر 2021 للمطالبة بالخدمات وتوفير فرص عمل للخريجين.

مطالب ممتدة

بناءً على ما تقدم، يتضح أن هناك عددًا من المطالب الأساسية التي تقف وراء استمرار الحركة الاحتجاجية في الجنوب العراقي، والتي تنسحب أيضًا على باقي المناطق العراقية، والتي يمكن إجمالها فيما يلي:

حل أزمة الكهرباء: يعاني الجنوب العراقي من أزمة انقطاع الكهرباء المتكرر خلال فصل الصيف، والذي كان يصل في بعض الأوقات إلى نحو 20 ساعة انقطاع يوميًا، في ظل ارتفاع درجات الحرارة والتي تصل أحيانًا إلى نحو 50 درجة مئوية. وبحسب وزارة الكهرباء العراقية، فقد تسبب قطع إيران عام 2018 لإمداداتها من الكهرباء في زيادة ساعات قطع التيار الكهربائي في محافظات ذي قار وميسان والبصرة جنوبي البلاد.

وفي يونيو 2022، تعرض قطاع الكهرباء العراقي إلى أزمة جديدة تمثلت في وقف طهران لإمدادات الغاز لعدم سداد العراق المستحقات المالية لها البالغة نحو مليار و200 مليون دولار، نتيجة عدم قدرة النخب السياسية العراقية على تشكيل حكومة جديدة، وعدم قدرة الحكومة المؤقتة الحالية ممارسة سلطة سداد المدفوعات، الأمر الذي أدى إلى خروج نحو 7 آلاف ميغاواط عن الخدمة من إجمالي الطاقة المنتجة التي تصل إلى نحو 20 ألف ميغاواط. وعلى الرغم من اتجاه الحكومة العراقية خلال الأشهر المقبلة إلى استيراد الغاز الطبيعي المسال من قطر، إلا أنه من غير المرجح أن يكون مصدرًا بديلًا للغاز الإيراني، هذا مع الأخذ في الاعتبار أن أمر توقف إمدادات الغاز الإيراني للعراق يعني عجزًا في قطاع الكهرباء العراقي بنسبة قد تتجاوز الثلث. 

يضاف إلى ما تقدم، ما يواجهه قطاع الكهرباء من عمليات تخريب شبه منظمة لخطوط النقل فائقة القدرة الرابطة بين المحافظات، والتي بلغت عام 2021 أكثر من 100 عملية أدت إلى خروج المنظومة الكهربائية في بعض المناطق بالكامل عن الخدمة، هذا إلى جانب الفساد وسوء الإدارة. وعلى الرغم من جهود الحكومات العراقية المتعاقبة على مدار ثلاثة عقود مضت لإدارة هذا الملف عبر إما رفع حجم المخصصات المالية لهذا القطاع، أو توقيع العديد من العقود الاستثمارية، ولكن يظل الوضع دون حل. 

علاج أزمة المياه: يواجه العراق بشكل عام، ومحافظات الجنوب على وجه التحديد، أزمة شح مصادر المياه، الناتجة عن قيام إيران وتركيا ببناء سدود على الأنهار الحدودية مع العراق، الأمر الذي أدى إلى جفاف الأنهار خاصة في البصرة، وارتفاع نسبة ملوحتها نتيجة لارتفاع استقبال النهر لمياه الخليج العربي المالحة. ليس هذا فحسب، فقد أضاف إلقاء إيران لمخلفات في نهر كارون المغذي لنهر شط العرب في ارتفاع نسبة ملوحة النهر، هذا بالإضافة إلى وجود بكتيريا تسببت في حالات تسمم. 

أدت أزمة المياه إلى تناقص مساحات الأراضي المزروعة، لا سيما من القمح، بالإضافة إلى نفوق مئات الآلاف من الأسماك في المزارع، الأمر الذي من شأنه اتجاه مواطني هذه المناطق إلى النزوح وهجر أراضيهم والتي مع مرور الوقت قد تصبح غير صالحة للحياة. 

القضاء على الفساد وتحسين الظروف المعيشية للمواطنين: تعد مسألة القضاء على الفساد وحساب المتورطين فيه من أبرز مطالب المحتجين منذ عام 2018، بل ويمكن القول إن هذا المطلب على وجه التحديد هو المطلب الأساسي الذي لم يتغير بمرور الأيام، وهذا نظرًا لتداخل هذا الملف مع جميع الأزمات الأخرى التي يعاصرها العراق من أزمة بالكهرباء والمياه، وارتفاع معدلات الفقر، فضلًا عن ارتفاع معدلات البطالة، وتراجع البنية التحية وانخفاض مستوى معيشة المواطنين.

خلال حراك أكتوبر 2019، طالب المحتجون بإنهاء نظام المحاصصة الطائفية، وذلك باعتباره سببًا رئيسيًا لاستمرار الفساد في العراق، حيث توزيع المناصب والمراكز الحكومية والأنشطة الاقتصادية بين الجماعات السياسية وفقًا لمنهج المحاصصة، الأمر الذي من شأنه احتكار المقدرات السياسية والاقتصادية على مجموعات بعينها دون باقي المواطنين. 

فعلى الرغم مما يملكه العراق من ثروات نفطية، تشير التقديرات العراقية الرسمية لعام 2022 إلى أن نسبة الفقر في العراق تتراوح ما بين 22%-25%، فيما بلغت نسبة البطالة نحو 16.5%. 

وفي هذا الإطار، تعيش المحافظات الجنوبية في ظروف معيشية متدهورة. على سبيل المثال، تشكل واردات محافظة البصرة النفطية نحو 65% من عائدات العراق، لكن لا يوجد أي انعكاس لهذه النسبة على الأوضاع المعيشية هناك، حيث تعاني المحافظة من الفقر ونقص كبير في الخدمات، هذا بالإضافة إلى إعراض الشركات النفطية العاملة هناك عن تشغيل أبناء المحافظة الأمر الذي أسهم في ارتفاع نسب البطالة.

المشهد الجنوبي الراهن

بحلول الذكرى الثالثة لتظاهرات أكتوبر 2019، لا يزال الجنوب العراقي يعاني من ذات الأزمات التي يحتج بشكل مستمر بشأنها منذ عام 2018. على سبيل المثال، أغلق متظاهرون في محافظة البصرة بجنوب العراق الطرق يوم التاسع من أغسطس الماضي احتجاجًا على انقطاع التيار الكهربائي الذي تزامن مع وصول درجات الحرارة إلى نحو 50 درجة مئوية. لم تقف الاحتجاجات الغاضبة عند البصرة، بل امتدت التظاهرات إلى ميسان وبغداد أيضًا، احتجاجًا على تدهور قطاع الكهرباء العراقي، وتكرر مشهد الإخفاق في توفير التجهيزات اللازمة لمواجهة الطلب المحلي المتزايد أثناء ارتفاع درجات الحرارة.

ومع عودة انعقاد مجلس النواب العراقي بعد توقفه عن الانعقاد لمدة شهرين، خرجت مظاهرات في عدد من المناطق الجنوبية رفضًا لانعقاد الجلسة، ورفضًا لعودة المحاصصة وحكومات التوافق.

وما يُعد جديدًا الآن على مشهد الاحتجاجات الجنوبية هو تطور مشهد العنف، فقد كان المعتاد سابقًا هو المناوشات التي تجري بين الحين والآخر بين المحتجين وقوات الأمن العراقية، إلا أن ما شوهد خلال الأيام السابقة يشير إلى اشتباك المناطق الجنوبية مع حالة التنافس السياسي الراهن الأمر الذي تمخض عنه دخول هذه المناطق في أزمات أمنية جديدة.

وقد شهدت مدينة البصرة اشتباكات في الأول من سبتمبر بين سرايا السلام (الجناح المسلح للتيار الصدري) وعصائب أهل الحق (أحد فصائل الحشد الشعبي الموالية لإيران)، والتي أسفرت عن مقتل أربعة مقاتلين، وبدت الأجواء داخل المحافظة في وضع تحفز وترقب لأي مناوشات أو اشتباكات جديدة ما بين الجانبين. 

شهد الأمر شكلًا جديدًا من التصعيد بعد قيام عناصر مسلحة من العصائب باستعراض أسلحتهم بالقرب من القصور الرئاسية بالبصرة، الأمر الذي استلزم ردًا من جانب “سرايا السلام”، حيث قام المئات من العناصر المنضوية تحته باستعراض أسلحة خفيفة ومتوسطة والتجول في شوارع البصرة حتى ساعات متأخرة من ليل الخميس التاسع والعشرين من سبتمبر. وبحسب ما ورد عن سرايا السلام، فإن هذا الاستعراض قد تم بالتنسيق مع الجهات الأمنية، وأنه قد جرى بناءً على وجود معلومات بشأن نية “ميليشيا مسلحة” القيام بأعمال عنف في البصرة، بالتزامن مع حلول الذكرى السنوية لحراك تشرين، وأن استعراض “سرايا السلام” ما هو إلا رسالة تحذير لها.
ويضيف مشهد الاقتتال الحالي داخل البيت الشيعي أزمة جديدة إلى أزمات الجنوب الممتدة منذ سنوات، فالاقتتال الذي لا تنحصر مواجهاته في المنطقة الخضراء ببغداد، فرض ثقلًا جديدًا على كاهل قاطني المحافظات الجنوبية.

وختامًا، لا ينفصل المشهد في الجنوب عن المشهد السياسي والاقتصادي العراقي العام، ولكن يتمثل موضع الاختلاف الوحيد في تعرض مواطني الجنوب للآثار الناتجة عن هذه الأزمات بشكل متزايد ومباشر منذ عدة سنوات، الأمر الذي أدى إلى عدم قدرة المواطنين على تحمل المزيد من الأوضاع المتردية. وعليه، من غير المتوقع هدوء احتجاجات الجنوب خلال الفترة المقبلة. فحتى لو توصل الفاعلون السياسيون بالأزمة إلى تفاهم ما، ونجحوا في تشكيل الحكومة، وانسحب ذلك إلى هدوء حدة المواجهات الشيعية – الشيعية، ومن ثم هدوء حدة الاحتجاجات في بغداد، فمن غير المتصور أن ينسحب هذا الهدوء على مناطق الجنوب، فما تعيشه هذه المناطق أعقد من الأزمة السياسية الراهنة. فأزمة الكهرباء وحدها تعد أزمة ممتدة منذ ما يزيد على ثلاثة عقود دون حل، كذلك الأمر بالنسبة لأزمات الجفاف ونقص المياه المرتبطة بفاعلين خارجيين يسعون إلى تلبية احتياجاتهم الداخلية دون الأخذ في الاعتبار للاحتياجات الأساسية للمواطنين العراقيين. 

في المقابل، في حال استمرار الوضع على ما هو عليه، حيث استمرار غياب الخدمات الأساسية، وتنامي حدة الانسداد السياسي والاقتتال ما بين الفصائل الشيعية، يصبح من غير المحتمل أن يحل الهدوء والاستقرار على جنوب العراق.

نوران عوضين
باحث بوحدة الدراسات العربية والإقليمية