اختتمت المحادثات غير المباشرة حول الاتفاق النووي بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية برعاية أوروبية في فيينا، في 8 أغسطس الجاري، وعادت وفود التفاوض إلى عواصمها بانتظار اتخاذ قرارات سياسية سوف تحدد بدرجة كبيرة المسارات المحتملة للمفاوضات التي تجري منذ عام ونصف ولم تصل إلى نتيجة بعد. وبدا واضحًا من ردود فعل الأطراف المنخرطة في المفاوضات، خاصة الطرفين الرئيسيين وهما إيران والولايات المتحدة الأمريكية، أن الكرة باتت في ملعب الأولى، وأن عليها الآن أن تقرر ما إذا كانت ستقبل بالمسودة التي طرحها منسق السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، والتي أجريت المباحثات الأخيرة حولها، أم سترفض ذلك، أم ستطالب بإجراء مزيد…
اختتمت المحادثات غير المباشرة حول الاتفاق النووي بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية برعاية أوروبية في فيينا، في 8 أغسطس الجاري، وعادت وفود التفاوض إلى عواصمها بانتظار اتخاذ قرارات سياسية سوف تحدد بدرجة كبيرة المسارات المحتملة للمفاوضات التي تجري منذ عام ونصف ولم تصل إلى نتيجة بعد.
وبدا واضحًا من ردود فعل الأطراف المنخرطة في المفاوضات، خاصة الطرفين الرئيسيين وهما إيران والولايات المتحدة الأمريكية، أن الكرة باتت في ملعب الأولى، وأن عليها الآن أن تقرر ما إذا كانت ستقبل بالمسودة التي طرحها منسق السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، والتي أجريت المباحثات الأخيرة حولها، أم سترفض ذلك، أم ستطالب بإجراء مزيد من المفاوضات للوصول إلى توافقات حول بعض النقاط التي ما زالت ترى أنها عالقة.
هنا بالتحديد يبدو أن إيران باتت تواجه مأزقًا صعبًا، فالولايات المتحدة الأمريكية أكدت أنها يمكن أن تبرم اتفاقًا على أساس المسودة التي عرضها بوريل، بما يعني أن هذه المسودة تستوعب شروطها لإتمام الاتفاق، وبدا أنها تتعمد الإشارة إلى أن إيران هي الطرف الذي سيقرر مصير المفاوضات. بل إن روسيا، وهي القوة الدولية الأقرب إلى طهران في المفاوضات، أعلنت موافقتها عليها بانتظار استيضاح مواقف القوى الأخرى تجاهها.
أزمة الموافقة
هذا المأزق الصعب تفرضه الخيارات المحدودة المتاحة أمام إيران. إذ إنها في حالة ما إذا وافقت على المسودة المعروضة، فمعنى ذلك أنها ستوافق، بشكل كبير، على المقاربة الأمريكية ذاتها، بدليل أن واشنطن أكدت دعمها للمسودة، ولم تبدِ موقفًا مضادًا يتيح القول بأن لديها تحفظات عليها.
ورغم أنه لا توجد تفاصيل واضحة عن تلك المسودة سوى أنها تركز على معضلَتَيْ العقوبات (الأمريكية) والالتزامات النووية (الإيرانية)، فإن ثمة مؤشرين يكشفان أنها لا تستوعب، في الغالب، شروط إيران في المفاوضات، ولا سيما ما يتعلق بشطب الحرس الثوري من قائمة التنظيمات الإرهابية الأجنبية، والحصول على ضمانات بعدم الانسحاب الأمريكي من الاتفاق مجددًا، وإغلاق ملف التحقيقات حول بعض الأنشطة النووية التي تم رصدها في ثلاثة مواقع ولم ترد إيران على أسئلة الوكالة الدولية للطاقة الذرية بشأنها.
المؤشر الأول، يتمثل في أن الولايات المتحدة الأمريكية قبلت -كما سلفت الإشارة- بالمسودة الأوروبية، وهو ما يعني أنها لا تتضمن أيًا من هذه الشروط، خاصة أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن سبق أن أكدت أنها لن ترفع الحرس الثوري من القائمة الإرهابية، ولن تقدم ضمانات بعدم الانسحاب مجددًا من الاتفاق.
فيما ينصرف المؤشر الثاني إلى تأكيد الدول الغربية على ضرورة عدم تبني إيران مطالب خارج الاتفاق النووي، في إشارة تحديدًا إلى مطلب إغلاق التحقيقات الخاصة بالأنشطة النووية المشكوك فيها. إذ تصر هذه الدول على ضرورة استيفاء هذه التحقيقات، والحصول على إجابات واضحة من جانب إيران على الأسئلة التي سبق أن طرحتها عليها الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فضلًا عن العودة مرة أخرى إلى الالتزام بما يقتضيه الاتفاق من رقابة صارمة من جانب الوكالة على الأنشطة النووية الإيرانية برمتها عبر إعادة تشغيل كاميرات المراقبة وتسليم الوكالة بطاقات الذاكرة الخاصة بها.
ومن دون شك، فإنه في حالة موافقة إيران على هذه المسودة -بما تتضمنه من بنود- وبصرف النظر عما سوف يفرضه ذلك من تداعيات اقتصادية ونووية متعددة، فإنه سوف يُعرِّض حكومة الرئيس إبراهيم رئيسي لضغوط وحملات داخلية قوية، خاصة من جانب حلفائها، الذين تبنوا رؤيتها من البداية القائمة على ضرورة إجراء تعديلات في الاتفاق النووي بما يجعله أكثر “استقرارًا ومصداقية” أي أكثر قدرة على البقاء من الاتفاق الحالي الذي تلقى ضربة قوية بالانسحاب الأمريكي منه في 8 مايو 2018. كما أنها سبق أن شنت حملة ضد حكومة الرئيس السابق حسن روحاني متهمة إياها بالتسبب فيما آل إليه الاتفاق النووي، في حين أنها في الواقع لم تستطع تحقيق أكثر مما حققته الحكومة السابقة.
خطر الرفض
أما في حالة رفض إيران للمسودة الحالية، فإنها بذلك سوف تتعرض لضغوط وانتقادات غربية قوية، حيث إنها سوف تتحمل في هذه اللحظة مسئولية فشل المفاوضات، وهو ما نجحت الولايات المتحدة الأمريكية في تصديره إلى القوى الأخرى المنخرطة في المفاوضات عندما أعلنت أنها ترحب بالوصول إلى اتفاق على أساس هذه المسودة.
هنا، فإن تحميل إيران المسئولية سوف يفرض عليها تبعات أخرى لا تبدو ثانوية، خاصة مع اقتراب موعد انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي التي سوف تتم في نوفمبر القادم. إذ إن ذلك سوف يدفع الإدارة الأمريكية إلى رفع مستوى العقوبات التي تفرضها عليها، وربما اتخاذ خطوات إجرائية لتطبيق العقوبات بشكل أكثر صرامة، بعد أن تعمدت تخفيف حدتها خلال المرحلة الماضية، ولا سيما ما يتعلق بتصدير إيران جزءًا من نفطها، في إطار تقديم محفزات لها لتشجيعها على إبرام صفقة جديدة.
كما أن الدول الغربية التي اقتربت -إلى حد كبير- من السياسة الأمريكية تجاه إيران، قد تسعى في هذه الحالة إلى تفعيل ما يسمى بـ”آلية الزناد” Snapback في مجلس الأمن بكل ما يفرضه ذلك من تحويل العقوبات من أمريكية إلى دولية على نحو سوف يفاقم الضغوط على إيران التي تواجه في الفترة الحالية أزمة اقتصادية حادة لم تنجح الإجراءات التي اتخذتها الحكومة في التعامل معها أو تقليص حدتها.
ورغم أن إيران لم تستبعد هذه الاحتمال في الفترة الماضية، بدليل اتجاهها إلى التعويل على ما يسمى بسياسة “التوجه شرقًا” عبر رفع مستوى العلاقات الثنائية مع الصين وروسيا تحديدًا، إلى جانب بعض دول الجوار، مع استمرار الالتفاف على العقوبات الأمريكية؛ فإن ذلك لا ينفي -في الوقت نفسه- أن تبعات هذا المسار قد تكون وخيمة عليها، خاصة أن ذلك يتوازى مع استمرار العمليات الأمنية والاستخباراتية التي تقوم بها إسرائيل داخل أراضيها، وتستهدف من خلالها المنشآت النووية والمواقع العسكرية، فضلًا عن العلماء البارزين في البرنامجين النووي والصاروخي وبعض قادة الحرس الثوري، وهو توجه يبدو أنه سوف يتواصل خلال المرحلة القادمة.
إشكالية التسويف
يبقى احتمال اتجاه إيران إلى المطالبة بإجراء مزيد من المفاوضات للوصول إلى توافق حول بعض القضايا الخلافية. وقد بدأت إيران عبر تصريحات مسئوليها ووسائل إعلامها في الإشارة إلى هذا المسار. وربما يعود ذلك في المقام الأول إلى ما يفرضه المساران السابقان من تبعات عليها. فالأول لا يستوعب شروطها كاملة، والثاني يمكن أن ينتج معطيات جديدة على الأرض تبدو في حاجة ماسة إلى تجنبها على الأقل في المرحلة الحالية.
ورغم أن القوى الدولية المنخرطة في المفاوضات سبق أن أشارت إلى أنها في انتظار رد طهران، فإن ذلك لا يعني أنها سوف تتسامح بسهولة مع مطالب إيران في هذا الصدد. ومع ذلك، فإنه في حالة ما إذا قبلت بإجراء مزيد من المفاوضات، وهو احتمال لا يمكن استبعاده؛ فإنه لا يوجد ما يضمن أنها يمكن أن تنتهي باستيعاب شروط إيران، أو على الأقل الوصول إلى توافق حول بعضها، خاصة أن إيران -في الوقت ذاته- تمارس ضغوطًا عليها عبر مواصلة تحقيق تقدم كبير في برنامجها النووي، والتأكيد على أنها تمتلك القدرات الفنية اللازمة لصنع القنبلة النووية وإن لم تتخذ قرارًا سياسيًا بعد في هذا الصدد.
ختامًا، يمكن القول إن كل ما سبق يعني في المقام الأول أن الخيارات المتاحة أمام إيران في إدارة المفاوضات النووية ليست متعددة، وهذا أكثر ما يمكن أن يثير قلق طهران، التي تسعى دومًا إلى توسيع هامش المناورة وحرية الحركة المتاحة أمامها على الساحتين الإقليمية والدولية. وبالطبع فإن ما يزيد من تأثير هذا المأزق هو أنه أيًا كان المسار الذي سوف تتجه إليه المفاوضات، بناءً على القرار الذي سوف تتخذه إيران بالطبع، فإنه سيكون له تأثير مباشر على توازنات القوى في المنطقة وموقعها منها، فضلًا عن حدود التصعيد بينها وبين إسرائيل، التي يبدو أنها سوف تواصل إدارة المواجهة مع إيران بصرف النظر عن مآلات المفاوضات في فيينا.