الناتو وروسيا من الشراكة إلى المواجهة

خبير الشؤون الامريكية والدولية

شكلت الحرب الروسية الأوكرانية نقطة تحول إستراتيجى فى العلاقة بين حلف الناتو وروسيا، انتقلت من دائرة الشراكة إلى المواجهة، حيث اعتبرت قمة الحلف الأخيرة فى مدريد أن روسيا هى مصدر التهديد المباشر والأكبر لأمن الحلفاء، وذلك فى إطار المفهوم الاستراتيجى الجديد للحلف، وهو ما سيكون لها تداعيات إستراتيجية خاصة على الأمن الإقليمى فى أوروبا. بعد انتهاء الحرب الباردة وتفكك حلف وارسو أنشأ حلف الناتو أولويات جديدة تضمن له الاستمرارية، حيث لم يعد فقط لمواجهة روسيا وريثة الاتحاد السوفيتى، وإنما ركز على مواجهة التهديدات الأمنية المختلفة مثل محاربة الإرهاب وتوسع الحلف فى مهامه وتجاوز حدوده الجغرافية وقام بعمليات عسكرية فى أفغانستان…

د. أحمد سيد أحمد
خبير الشؤون الامريكية والدولية

شكلت الحرب الروسية الأوكرانية نقطة تحول إستراتيجى فى العلاقة بين حلف الناتو وروسيا، انتقلت من دائرة الشراكة إلى المواجهة، حيث اعتبرت قمة الحلف الأخيرة فى مدريد أن روسيا هى مصدر التهديد المباشر والأكبر لأمن الحلفاء، وذلك فى إطار المفهوم الاستراتيجى الجديد للحلف، وهو ما سيكون لها تداعيات إستراتيجية خاصة على الأمن الإقليمى فى أوروبا.

بعد انتهاء الحرب الباردة وتفكك حلف وارسو أنشأ حلف الناتو أولويات جديدة تضمن له الاستمرارية، حيث لم يعد فقط لمواجهة روسيا وريثة الاتحاد السوفيتى، وإنما ركز على مواجهة التهديدات الأمنية المختلفة مثل محاربة الإرهاب وتوسع الحلف فى مهامه وتجاوز حدوده الجغرافية وقام بعمليات عسكرية فى أفغانستان والعراق وإفريقيا وغيرها. وتبنى الحلف سياسة الاحتواء مع روسيا، ففى عام 1997 أبرم الحلف اتفاقية صداقة مع روسيا ثم وقع معها فى عام 2010 اتفاقية شراكة استهدفت تحقيق التعايش والتعاون بين الجانبين وإجراء المناورات العسكرية المشتركة، لكن حدث تحول فى العلاقة بينهما فى عام 2014 بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، حيث تبنى حلف الناتو سياسة التصعيد ضد روسيا وأنهى اتفاقية الشراكة، ثم جاء التدخل العسكرى الروسى فى أوكرانيا لنقل العلاقة إلى مرحلة المواجهة ولكن دون الصدام العسكرى المباشر بينهما تجنبا لوقوع حرب عالمية ثالثة، واعتمد الحلف على إستراتيجية الضغط على روسيا.

أولاها: دعم أوكرانيا عسكريا وتزويدها بأحدث الأسلحة من طائرات وصواريخ ودبابات وكذلك التعاون الاستخباراتى، وهذا الدعم، وإن نجح فى استنزاف روسيا وإطالة أمد الحرب وانسحاب القوات الروسية من مناطق الشمال والعاصمة كييف والتركيز على إقليم دونباس، إلا أنه لم يردع روسيا أو يدفعها للانسحاب من أوكرانيا خاصة من الدونباس، لأن معظم الأسلحة الغربية لأوكرانيا هى أسلحة دفاعية، كما أن هذه الأسلحة المتطورة التى قدمتها أمريكا ودول الحلف لم يتم تدريب الجنود الأوكرانيين عليها، إضافة إلى قوة روسيا العسكرية وعدم تكافؤ موازين القوى مع أوكرانيا.

وثانيتها: اعتمد الحلف على تعزيز قوة الجناح الشرقى، أى زيادة القوة والوجود العسكرى للحلف من أسلحة متطورة فى دول شرق أوروبا الملاصقة والقريبة من روسيا مثل دول البلطيق وبولندا لردع روسيا ومنع قيامها بالتدخل العسكرى فى تلك الدول. وفى هذا الإطار أرسلت أمريكا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا العديد من قواتها العسكرية إلى دول البلطيق منها اللواء القوى، وكذلك نشر منظومات صواريخ متقدمة وأجهزة رادار، وزيادة عدد القوات الأمريكية فى أوروبا لتصل إلى 100 ألف جندى منذ مارس الماضى، وإرسال طائرات إف 35 لبريطانيا، لكن يظل هذا الانتشار العسكرى للحلف للردع وليس للمواجهة العسكرية.

وثالثتها: توسع الحلف بضم فنلندا والسويد لتوسيع مساحة الجوار المباشر للحدود الروسية وذلك لتحقيق التطويق الكامل لروسيا، وهو ما أثار غضب موسكو واعتبرته تهديدا مباشرا لها.

هذه الإستراتيجية الثلاثية لحف الناتو تجاه روسيا والتى تقودها بشكل كبير أمريكا، القوة الأكبر والأكثر فاعلية فى الحلف الذى يضم 30 دولة، حققت عدة أهداف للناتو وللولايات المتحدة.

أولا: أن حرب أوكرانيا أعطت قبلة الحياة للحلف وجعلته أكثر قوة وتوحدا بعدما كان يواجه تحديات كبيرة وتصدعات كثيرة، خاصة فى فترة الرئيس ترامب، الذى وصف الحلف بالعتيق، حيث تم توظيف التهديد الروسى كعدو لتبرير استمرار الحلف، كما أن بعض الدول مثل ألمانيا وجدت فى حرب أوكرانيا فرصة لزيادة تسليحها العسكرى بمائة مليار يورو والتخلى عن سياسة التسليح والإنفاق العسكرى السابقة التى استمرت منذ الحرب العالمية الثانية. ووجدت بعض الدول الأوروبية فى الحلف المظلة الأمنية الأساسية لها لمواجهة التهديدات الخارجية بعد تعثر فكرة الجيش الأوروبى الموحد.

وثانيا: سعت أمريكا لتوظيف الحرب الروسية الأوكرانية لتحقيق أهدافها السابقة فى عهد ترامب وفى عهد بايدن أيضا، وأبرزها مطالبة الدول الأعضاء للحلف بزيادة ميزانيتها العسكرية لأكثر من 2% لمشاركة أمريكا فى تحمل الأعباء العسكرية، كما تسعى أمريكا لتوظيف حلف الناتو كأداة لتحقيق أهدافها الإستراتيجية فى مواجهة خصومها، خاصة روسيا والصين، كما جاء فى بيان قمة مدريد، حيث أصبحت روسيا المهدد والخصم الاستراتيجى للحلف، وتم وضع الصين لأول مرة كمهدد اقتصادى وسياسى لمصالح وقيم دول الحلف، وهو ما يمثل تحولا استراتيجيا مهما فى مهام وخصوم الحلف.

غير أن هذا المفهوم الإستراتيجى الجديد للحلف الذى يركز على روسيا والصين كمهدد إستراتيجى يمثل تحديا كبيرا للحلف وقد يدفع إلى انقسامه، فكثير من دول الحلف خاصة أوروبا وتركيا لا تتفق مع أمريكا فى اعتبار الصين خصما للحلف فى ظل تشابك العلاقات الاقتصادية معها. كما أن سياسة الحلف الجديدة قد تدفع الصين وروسيا إلى تطوير قدراتهما العسكرية من الأسلحة الذكية وإجراءاتهما التصعيدية وإلى مزيد من التقارب والتحالف الاستراتيجى بينهما، وقد يقوم البلدان بإنشاء حلف عسكرى جديد، على غرار حلف وارسو، لمواجهة الإستراتيجية الجديدة للناتو خاصة بعد زيادة مهامه ونطاقه لتشكل بحر الصين الجنوبى ومضيق تايوان، وهو ما يكرس عمليا الحرب الباردة الجديدة بين أمريكا والناتو وبين روسيا والصين مما يشكل تهديدا للسلم والأمن الدوليين وعسكرة العلاقات الدولية وإشعال سباق التسلح العالمى.

نقلا عن جريدة الاهرام الأثنين 4 يوليو 2022

د. أحمد سيد أحمد
خبير الشؤون الامريكية والدولية