الأزمة الروسية الأوكرانية .. قراءة هادئة

نائب المدير العام للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية

قد يبدو من قبيل التناقض الظاهري أن أحاول القيام بعملية قراءة هادئة للأزمة الروسية الأوكرانية بينما لاتزال طبول الحرب – الحقيقية أو غير ذلك – تقرع حتى كتابة هذه السطور ، كما لازالت مخاطر الغزو الروسي لأوكرانيا قائمة في أي وقت أو هكذا تحاول الولايات المتحدة أن تؤكد عليه وتسعى لإقناع المجتمع الدولى به، وذلك في مواجهة موقف روسى يرفض هذه التوجهات الأمريكية ويشير إلى أن مسألة غزو أوكرانيا بالمعنى الذي تركز عليه واشنطن يعد أمراً غير مطروح . بداية يجب أن أشير إلى أن الأزمة الحالية بين الولايات المتحدة وروسيا ليست هي المرة الأولى التي تحدث فيها مثل هذه…

اللواء محمد إبراهيم الدويري
نائب المدير العام للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية

قد يبدو من قبيل التناقض الظاهري أن أحاول القيام بعملية قراءة هادئة للأزمة الروسية الأوكرانية بينما لاتزال طبول الحرب – الحقيقية أو غير ذلك – تقرع حتى كتابة هذه السطور ، كما لازالت مخاطر الغزو الروسي لأوكرانيا قائمة في أي وقت أو هكذا تحاول الولايات المتحدة أن تؤكد عليه وتسعى لإقناع المجتمع الدولى به، وذلك في مواجهة موقف روسى يرفض هذه التوجهات الأمريكية ويشير إلى أن مسألة غزو أوكرانيا بالمعنى الذي تركز عليه واشنطن يعد أمراً غير مطروح .

بداية يجب أن أشير إلى أن الأزمة الحالية بين الولايات المتحدة وروسيا ليست هي المرة الأولى التي تحدث فيها مثل هذه الأزمات ( أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 – محاولة روسيا غزو جورجيا عام 2008 – ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014 ) ومن المؤكد أن الأزمة الأوكرانية لن تكون الأخيرة مهما كانت التعهدات ومهما تم التوصل إلى تفاهمات سياسية أو أمنية نظراً لأن الصراع الأمريكي الروسي لن ينتهى على الأقل في المدى المنظور ومن ثم يجب أن يهيئ العالم نفسه إلى التعامل مع أزمات مشابهة سوف تحدث على فترات متقاربة .

وقد تميزت الأزمة الراهنة بأنها شهدت منذ اللحظة الأولى تصعيداً واضحاً بين واشنطن وموسكو حيث إتجهت إدارة الرئيس بايدن إلى حشد أكبر قدر من التأييد لموقفها ضد روسيا من خلال التأكيد على إعتزام روسيا غزو أوكرانيا بل وصل الأمر إلى تحديد موعد هذا الغزو ، في الوقت الذي نجحت فيه روسيا في أن تكسب نقاطاً على أرض الواقع من خلال الحشود العسكرية الضخمة على حدودها مع أوكرانيا بالإضافة إلى المناورات العسكرية التي أجرتها فى شبه جزيرة القرم ومع بيلاروسيا ، وهو ما يشير إلى أن روسيا تواجه الموقف الأمريكي بإنتهاج سياسة حافة الهاوية قناعة منها بأنها سوف تؤتى ثمارها في النهاية .

وبعيداً عن التعرض إلى النواحى العسكرية والتاريخية التي أصبحت تفصيلاتها معروفة للجميع وهناك عشرات الخبراء والمختصين الذين يملأون وسائل الإعلام تحليلاً على مدار الساعة ولهم كل الإحترام والتقدير ، فإنى أرى أن هذه الأزمة كانت بمثابة ظاهرة كاشفة للعديد من المحددات وأهمها المحددات الخمسة التالية : 

المحدد الأول : أن القطبية الثنائية التي تمثلها كل من الولايات المتحدة وروسيا لاتزال قائمة وبصورة قوية حيث أن هذه الأزمة أكدت بما لايدع مجالاً للشك أن الحرب العالمية الثالثة إذا وقعت – مع إستبعادى التام لهذا الإحتمال  – فإنها لن تخرج عن أي من هذين القطبين الذين يمتلكان أقوى الجيوش والمعدات العسكرية على مستوى العالم ، ولا يمكن أن نتصور أن هناك قوة أخرى على وجه الأرض تمتلك مثل هذه الترسانات المسلحة أو تكون قادرة على إستخدامها أو حتى حشد قواتها مثلما فعلت روسيا فى هذه الأزمة .

المحدد الثانى : أن هناك خطوطاً حمراء لا يمكن لأى من هذين القطبين أن يتعداها تحت أى ظروف، وأقصد هنا أن المواجهة العسكرية المباشرة بين واشنطن وموسكو ليست واردة فى قاموس أى منهما، ومن ثم فإن المواجهة بينهما سوف تكون في ميادين أخرى خارجية سواء في أوكرانيا كما هو الوضع حالياً أو فى مناطق أخرى مثل منطقة الشرق الأوسط .

المحدد الثالث : أن روسيا التي فرضت الولايات المتحدة عليها العديد من العقوبات طوال سنوات سابقة ولازالت تعانى من آثارها الإقتصادية لن تقبل بأى حال من الأحوال المساس بأمنها القومى وهى قادرة على إستخدام القوة العسكرية للحفاظ على أمنها أو على الأقل التهديد بإستخدامها مهما كانت النتائج بإعتبارها قوة عظمى يترأسها أحد أهم الزعماء على المستوى الدولى ، وهذه هي الرسالة الجادة التى حرصت موسكو على أن تصل واضحة وحاسمة إلى واشنطن وإلى كل الدول الغربية .

المحدد الرابع : أن الولايات المتحدة سوف تظل تضع روسيا ذات القوة العسكرية والنووية على رأس أولويات مهددات أمنها القومى وتأتي أية دولة أخرى بعدها حتى لو كانت الصين ، وسوف تواصل واشنطن محاولة تحجيم تمدد النفوذ الروسى في كافة المناطق التي تحاول موسكو أن تتواجد فيها لاسيما إذا كان هذا التواجد أمنياً أو عسكرياً أو إقتصادياً ، ومن الواضح أن هذا الموقف الأمريكي يمثل أيضاً رسالة واضحة إلى الصين بأن واشنطن سوف تتحرك بنفس القوة لتحجيم النفوذ الصينى الذي بدأ يتوسع فى العالم .

المحدد الخامس : أن مسألة إستخدام الولايات المتحدة للقوة العسكرية في حالة الغزو الروسي لأوكرانيا هى مسألة مستبعدة تماماً وأن الرد الأمريكي سوف يقتصر على تكثيف العقوبات الإقتصادية الأمريكية والأوروبية على روسيا ، ولاشك أن هذا الموقف الأمريكى يشجع روسيا على التمسك بمواقفها بل ويمكن لها إتمام عملية غزو أوكرانيا إذا كانت قد قررت اللجوء إلى هذا الخيار من أجل حماية أمنها القومي، أما مسألة العقوبات فهى ليست جديدة عليها ويمكن لها أن تواجهها ولو حتى جزئياً رغم أن الغزو الروسى لأوكرانيا سوف يترتب عليه تكلفة إقتصادية أكبر مما ذى قبل ، وإن كانت موسكو تراهن على أن الخسائر الإقتصادية المترتبة على غزو أوكرانيا سوف تشمل العديد من دول العالم وليس هى فقط .

لايزال الموقف الأمريكى حتى الآن يتحرك على مسارين رئيسيين قد يبدو أنهما متناقضين أولهما الدفع فى إتجاه أن الغزو الروسى لأوكرانيا يعد مسألة وقت فقط رغم إتجاه روسيا إلى خفض حدة التصعيد نسبياً  ، أما المسار الثانى فهو منح الخيار السياسى والدبلوماسى كل الدعم والوقت الممكن لحل الأزمة إلى حد أن الرئيس “بايدن” إتصل بالرئيس “بوتين” فى أوج الأزمة ، كما أنه من المقرر أن يلتقى وزيرى الخارجية الأمريكى والروسى خلال أيام بالإضافة إلى تواصل وزيرى دفاع الدولتين، ولاشك أن هذا الموقف يؤكد أن هذه الأزمة الخطيرة التى تهدد السلام العالمى قابلة للإحتواء ويمكن أن تصل إلى بر الأمان . 

من الواضح أن الموقف الأوروبي يبدو متوائماً مع الموقف الأمريكى تجاه هذه الأزمة وذلك في ظل إلتزامات حلف الناتو ، إلا أن الدول الأوروبية التي ترتبط بعلاقات إقتصادية قوية للغاية مع روسيا التى تمد أوروبا بحوالى 40% من الطاقة لا ترغب فى أن تسلم تماماً بالموقف الأمريكى حتى النهاية ومن ثم تحاول أن تتحرك من أجل حل هذه الأزمة دبلوماسياً وهو الأمر الذي وضح من خلال إسراع كل من قادة فرنسا وألمانيا وبريطانيا بالتحرك من أجل نزع فتيل الأزمة ، ولاشك أن روسيا تحاول إستثمار هذا الموقف الأوربى من أجل أن تمارس أوروبا ضغوطاً على الولايات المتحدة لتليين مواقفها .

ولا يساورنى الشك في أن الرئيس الروسى “بوتين” يرنو إلى إعادة إحياء إمبراطورية الإتحاد السوفيتى السابقة التى إنهارت وتفككت في بداية التسعينيات من القرن الماضى وهو حلم يبدو من وجهة نظره مشروعاً ولكنه على قناعة بأنه أصبح بعيد المنال خاصة وأن العديد من الدول السوفيتية إنضمت إلى الإتحاد الأوروبى وإلى حلف الناتو ومن ثم فإن عودتها مرة أخرى داخل إطار الإمبراطورية الروسية يعد من المستحيلات ، ومن هنا فإن الرئيس الروسى سوف يتعامل بواقعية مع هذا الوضع بحيث إذا لم يتحقق هذا الحلم فعلى الأقل يمنع ماتبقى من الدول السوفيتية السابقة من أن تنضم إلى الناتو وألا تكون مصدر تهديد للأمن القومى الروسي وهو الأمر الذى ينطبق على أوكرانيا التي تمتد حدودها البرية مع روسيا أكثر من 2000 كم وحدود بحرية حوالى 500 كم .

وفى نفس الوقت فإن الرئيس “بوتين” يمتلك ثلاثة كروت ضغط تمثل في مجملها عوامل ضاغطة على الموقف الأمريكي وسوف يستمر بوتين في التلويح بهذه الكروت وأولها بالطبع القوة العسكرية التى يمكن لها أن تحسم مسألة غزو أوكرانيا إذا قرر إنتهاج هذا الطريق ، وثانيها قدرته على دعم الحركات الإنفصالية في شرق أوكرانيا وإمكانية أن تقوم هذه الحركات بمناوشات عسكرية ضد أوكرانيا أو تتحول هذه المناطق إلى دول مستقلة معترف بها تنفصل تماماً عن أوكرانيا ( دونيتسك – لوغانسك “منطقة دونباس” ) ، أما ثالث هذه الكروت فهو العلاقات الإقتصادية التى تربط الدول الأوروبية مع روسيا وخاصة فى مجال الطاقة حيث أن روسيا تمد أوروبا بحوالى 40% من إحتياجاتهم من الغاز وبالتالى فإن الأوربيين من المفترض أن يكونوا أكثر حرصاً من جانبهم على إستمرار هذه العلاقات مع روسيا .

وفي تقديري أن الفترة القريبة القادمة سوف تشهد إستمراراً للجهود الدبلوماسية ليس فقط من جانب الدول الغربية ولكن أيضاً من جانب طرفى النزاع وأقصد واشنطن وموسكو من أجل إحتواء الأزمة وهو أمر لابد من التوقف عنده حيث أن الوساطة في هذه الأزمة لم تقتصر فقط على أطراف خارجية بل شملت إتصالات مباشرة بين واشنطن وموسكو رغبة منهما في التوصل إلى حل سياسى حيث أن الحسابات المنطقية لكل من الرئيسين “بايدن وبوتين” لابد أن تقودهما إلى تفضيل هذا الحل ، إلا أنه في الوقت نفسه سوف تحرص روسيا على ألا تسقط الخيار العسكرى من حساباتها ولن تسحب قواتها دون مقابل وسوف تزيد من المناورات العسكرية التي تجريها حتى تظل واشنطن على قناعة بجدية الموقف الروسى .

كما ستحاول روسيا من خلال جهود الوساطة أن تصل إلى إتفاق بشأن الضمانات الأمنية التى يمكن أن تقبلها سواء عدم إنضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو أو على الأقل تأجيل هذا الأمر لفترة طويلة ولكن المهم لموسكو فى النهاية أن يتم أخذ المخاوف الأمنية الروسية فى الإعتبار حتى لا يتعرض الأمن الأوروبى بصفة عامة إلى تهديدات ومخاطر سوف تكون لها تداعيات عسكرية وإقتصادية .

وفي النهاية فإننا أمام سيناريو واضح تماماً ومعلن لطبيعة التطورات المقبلة للأزمة وهو سيناريو يشتمل على خطوات محددة ومتدرجة لن تكون خافية على أحد حيث أن غزو روسيا لأوكرانيا – فى حالة حدوثه ولا يزال إحتماله وارداً حتى بنسبة أقل – سوف يكلفها فرض عقوبات إقتصادية غير مسبوقة عليها وتكون روسيا بذلك قد حققت هدفها فى منع أوكرانيا من الإنضمام إلى الناتو ، أما فى حالة تراجع روسيا عن مسألة الغزو فإن ذلك سوف يفتح المجال أمام إنهاء هذه الأزمة بشرط رئيسى للروس وهو التوافق على طبيعة الضمانات الأمنية التى ترضى جميع الأطراف .

وفي رأيى أننا أمام مرحلة يمكن أن أسميها بالحرب الدافئة القابلة أن تكون ساخنة نسبياً في بعض الأحيان ولكن دون أن تصل إلى مرحلة الإنفجار الكامل الذى يهدد السلم العالمى وهي مرحلة سوف تستمر معنا لفترة طويلة حيث أن الصراع الدولي بين الولايات المتحدة وروسيا لن ينتهى فلابد أن يكون هناك مثل هذا الصراع نظراً لأن المصالح الدولية والتنافس على كسب مناطق النفوذ سوف تظل اللغة السائدة فى هذا العالم .  

وفي ضوء ماسبق فإن مثل هذه الأزمات التى لن تنتهى تتطلب من الدول العربية أن تدرس كافة البدائل والخيارات المتاحة أمامها للتعامل معها وخاصة أنه من المؤكد أن هناك تداعيات سياسية وإقتصادية سوف تترتب على هذه الأزمات – إذا إنفجرت – على المنطقة العربية ولاسيما في ظل العلاقات الجيدة التى تربط الجانب العربى مع كل من الولايات المتحدة وروسيا وقد يصل الأمر إلى مطالبة واشنطن الدول العربية بتوضيح موقفها بشكل محدد وليس مجرد مواقف عامة أو محايدة ، بالإضافة إلى ضرورة دراسة تأثير تفاقم هذه الأزمات على الأوضاع الإقتصادية ومن بينها مصير واردات السلع الغذائية من أوكرانيا وروسيا وكذا تأثير حدة مثل هذا التصعيد على أمن المنطقة وعلى الملاحة فى الممرات المائية وخاصة على قناة السويس .

اللواء محمد إبراهيم الدويري
نائب المدير العام للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية

مقالات أخرى للكاتب