لما كان “الفكر” أحد ركني اهتمام “المركز المصري”، مجاورًا في ذلك “الدراسات الاستراتيجية”؛ فإن الاهتمام بالمفاهيم الأساسية أو مفاتيح التفكير والاقتراب من الموضوعات المختلفة يوجب تقديم المعرفة اللازمة فيه. ونظرًا لأن الرئيس “عبدالفتاح السيسي” قد استخدم في مناسبات كثيرة اهتمامه الشديد بقضية “الوعي” الضرورية لدعم الانطلاقة المصرية الحالية على طريق التقدم والرفعة، فإن “تقديرات مصرية” -بعد التشاور مع د. خالد عكاشة، مدير المركز– تتولى القيام بعدد من الأنشطة المتعلقة باستكشاف هذا المفهوم والاقتراب منه، تمهيدًا للبحث في السياسات التي تتبع من أجل تشكيل الوعي المصري بما يفي بمتطلبات المرحلة، ويدفع عنها بعيدًا “الوعي الزائف” الذي يعوق فاعليتها. في هذا العدد…
لما كان “الفكر” أحد ركني اهتمام “المركز المصري”، مجاورًا في ذلك “الدراسات الاستراتيجية”؛ فإن الاهتمام بالمفاهيم الأساسية أو مفاتيح التفكير والاقتراب من الموضوعات المختلفة يوجب تقديم المعرفة اللازمة فيه. ونظرًا لأن الرئيس “عبدالفتاح السيسي” قد استخدم في مناسبات كثيرة اهتمامه الشديد بقضية “الوعي” الضرورية لدعم الانطلاقة المصرية الحالية على طريق التقدم والرفعة، فإن “تقديرات مصرية” -بعد التشاور مع د. خالد عكاشة، مدير المركز– تتولى القيام بعدد من الأنشطة المتعلقة باستكشاف هذا المفهوم والاقتراب منه، تمهيدًا للبحث في السياسات التي تتبع من أجل تشكيل الوعي المصري بما يفي بمتطلبات المرحلة، ويدفع عنها بعيدًا “الوعي الزائف” الذي يعوق فاعليتها.
في هذا العدد “٣٣”، سوف يجد القارئ ملفًا خاصًا عن الوعي، كبداية للاقتراب من الموضوع، والذي رغم ذيوعه فإنه عادةً ما يكون غامضًا وعصيًا عند الاستكشاف. وفي وقت من الأوقات كان الوعي مختلطًا بمعرفة معلومات كانت غائبة، مثل تلك التي قادت “توفيق الحكيم” إلى طرح أطروحته عن “عودة الوعي” في مطلع السبعينيات من القرن الماضي.
قبل أن ندلف لهذا الملف، فإنه بالتعاون مع الباحث “جبران محمد”، واستنادًا إلى المصادر العامة؛ جرى مسح عام للتعامل مع المفهوم من جوانب مختلفة، لغوية ونفسية واجتماعية وسياسية، وصحية أيضًا.
معنى الوعي
كلمة “الوعي” في قواميس اللغة العربية تعني: وَعَيْتُ العِلْمَ أعِيهِ وَعيًا، ووعَى الشيء والحديث يَعِيه: حَفِظَه وفَهِمَه وقَبِلَه، فهو واعٍ. وفلان أَوْعَى من فلان أَي أَحْفَظُ وأَفْهَمُ. ولمفهوم الوعي دلالات عديدة، لكن أهم معانيه تتجلى من خلال علم النفس وعلم الاجتماع. ففي علم النفس، يشير مصطلح “الوعي” أولًا إلى حالة اليقظة العادية، ويشير ثانيًا إلى قدرة الإنسان المتميزة الخاصة على الشعور بذاته، وتمايز ذاته عن الآخرين وعن الأشياء والكائنات الأخرى. أما علم الاجتماع، فقد شرع في التركيز على أن الوعي نتاج لتطور فسيولوجي لمخ الإنسان، ولقدرة الإنسان على العمل وابتكار اللغة، وأن الوعي بهذا الشكل يصبح النتاج المباشر لتفاعل المعرفة المكتسبة فرديًّا أو اجتماعيًّا مع المخ. وبالتالي، يصبح اللا وعي جزءًا من الوعي، ويتبادلان في الوقت نفسه التأثير والتأثر.
وبالتالي، يعتبر الوعي الحالة العقليّة التي يتم من خلالها إدراك الواقع والحقائق الّتي تجري من حولنا، وذلك عن طريق اتّصال الإنسان مع المحيط الّذي يعيش فيه، واحتكاكه به ممّا سيسهم في خلق حالة من الوعي لديه بكلّ الأمور التي تجري وتحدث من حوله، ممّا يجعله أكثر قدرة على إجراء المقاربات والمقارنات من منظوره هو، وبالتالي سيصبح أكثر قدرةً على اتّخاذ القرارات التي تخص المجالات والقضايا المختلفة التي تطرأ له.
الوعي أيضًا هو المحصول الفكري الذي ينضوي عليه عقل الإنسان، بالإضافة إلى وجهات النظر المختلفة التي يحتوي عليها هذا العقل والتي تتعلّق بالمفاهيم المختلفة التي تتمحور حول القضايا الحياتيّة والمعيشيّة. والوعي قد يكون وعيًا حقيقيًا بطبيعة القضايا المختلفة المطروحة حول الإنسان، إلّا أنّه قد يكون وعيًا مُضللًا زائفًا، فالوعي الزائف هو الذي لم يدرك الأمور على حقيقتها التي تجري عليها، مما سيجعل حكمه على مختلف القضايا والأمور التي تجري من حوله حكمًا خاطئًا لم يستطع مقاربة عين الصواب بأيّ شكلٍ من الأشكال.
ثمة أنواع عديدة للوعي، منها الوعي العفوي (التلقائي)، وهو ذلك النوع من الوعي الذي يكون أساس قيامنا بنشاط معين، دون أن يتطلب منا مجهودًا ذهنيًا كبيرًا، بحيث لا يمنعنا من مزاولة أنشطة ذهنية أخرى، أما الوعي التأملي فهو على عكس الأول يتطلب حضورًا ذهنيًا قويًا، ويرتكز على قدرات عقلية عليا، كالذكاء، والإدراك، والذاكرة. ومن ثم فإنه يمنعنا من أن نزاول أي نشاط آخر. كما أن هنالك الوعي الحدسي، وهو الوعي المباشر والفجائي الذي يجعلنا ندرك أشياء، أو علاقات، أو معرفة، دون أن نكون قادرين على الإتيان بأي استدلال. وأخيرًا، هنالك الوعي المعياري الأخلاقي، وهو الذي يجعلنا نُصدر أحكام قيمة على الأشياء والسلوكيات فنرفضها أو نقبلها، بناء على قناعات أخلاقية. وغالبًا ما يرتبط هذا الوعي بمدى شعورنا بالمسئولية تجاه أنفسنا والآخرين.
تشكيل الوعي
من العوامل الأخرى التي تؤثّر في وعي الإنسان بشكل عام هي: التعليم والمؤسسات الدينيّة، حيث إنّ هذه المؤسّسات تتجمّع مع بعضها بعضًا لتشكّل الوعي الذي قد يكون زائفًا وقد يكون حقيقيًا، فالمؤسّسات التعليميّة والمؤسّسات الدينيّة لديها القدرة على إخفاء الحقائق وإظهار حقائق أخرى لقلب الموازين وخلق رأيٍ عام تجاه قضيّة معينة تمامًا كما يفعل الإعلام. وأيضًا دور المؤسّسات العامّة والرسميّة والفن والمثقّفين والأدباء والكتّاب والعلماء، فكلّ هؤلاء يُسهمون أيضًا في تشكيل الوعي العام.
هنا، من المهم الإشارة إلى أن الوعي نوعان: وعي بالذات، ووعي بالآخر. والوعي بالذات يشمل الوعي بها في اختلاف الزمان: ماضيًا، وحاضرًا، ومستقبلًا. والوعي بها في اختلاف المكان: وطنًا، وإقليمًا، وأمة. فالوعي بالذات ماضيًا: أي معرفة من نحن، وكيف نشأنا، وما مسيرتنا، وهل لنا تاريخ نتصل به ونستفيد منه، أم إننا نبدأ من نقطة الصفر، كما يزعم البعض. وكيف يكون ماضينا زادًا ينير الدرب ويقوّم الخطوات. أما الوعي بالذات حاضرًا: أي معرفة واقعنا الذي نحياه، في مختلف المجالات، بدقة، فندركه كما هو، دون تجميل أو تقبيح، ودون تهويل أو تحقير. فالوعي بما يفرضه علينا واقعنا من قضايا واهتمامات وأولويات؛ يسهم في تحسين التعاطي معه، ولا ننفصل عنه. والوعي بالذات مستقبلًا، أي بالآمال المرتجاة، وبالفرص المتوقَّعة، وبكيفية التعامل معها من خلال الإمكانات المتوافرة؛ حتى نجمع بين المثالية والواقعية في وسطية واتزان. وهناك الوعي بالآخر، ولا تستقيم معرفة الذات حتى نعرف الآخر، ولهذا قيل: بضدها تتمايز الأشياء. فيجب أن نعرف كيف يفكر الآخر، وما نقاط قوته وضعفه، وما عوامل التلاقي والحوار التي تجمعنا، وأسباب الاختلاف والنزاع التي تفرقنا.
ويرى الفيلسوف الألماني “هيجل” أن الإنسان هو الموجود الوحيد الذي يعي ذاته، باعتباره يوجد كما توجد أشياء الطبيعة، وباعتباره موجودًا لذاته. أما الأشياء الأخرى فإنها لا توجد إلا بكيفية واحدة. وعلى هذا الأساس يجب على الإنسان أن يعيش بوصفه موجودًا لذاته، ذلك لأنه مدفوع إلى أن يجد ذاته ويتعرف عليها فيما يلقاه مباشرة ويعرض عليه من خارج. فالإنسان يعمل دائمًا على تغيير الأشياء الخارجية لأنه يريد أن يرى ذاته تتحقق بشكل موضوعي. فكيف يمكن أن تتمثل الذات نفسها؟.
أما الفيلسوف الفرنسي “ديكارت” فيرى أن الشك هو السبيل الوحيد إلى اليقين، فهو الذي يجعلنا نحيط بذواتنا. هكذا شك “ديكارت” في كل شيء بما في ذلك وجوده. فلم يستطع أن يقول إن الجسم والنفس من خواص نفسه. لكن تأكد له بوضوح أنه لا يستطيع أن يشك في أنه يفكر، حيث إن التفكير هو الخاصية الوحيدة التي لازمت الذات منذ البداية. فانطلاقًا من التفكير يمكن أن ندرك بصفة حدسية وجود الذات، هكذا استطاع “ديكارت” أن يقول: “أنا أفكر، إذن أنا موجود”. فالذات والتفكير متلازمان، فحينما تتوقف الذات عن التفكير تنقطع عن الوجود.
إلا أن الفيلسوف “برجسون” يرفض أي طابع ذاتي أو نسبي للوعي. فليس الوعي –في نظره– لحظة شعورية مرتبطة بشيء معين، وإنما الوعي هو إدراك للذات والأشياء في ديمومتها. فالوعي انفتاح على الحاضر والماضي والمستقبل. ومن ثم فإنه لا يقبل القسمة إلى لحظات معينة لأنه تدفق وسريان يصعب التمييز بين لحظاته. وانطلاقًا من هذا نتساءل: هل يمكن أن يتم الوعي في غياب العالم والآخرين؟.
في الاشتراكية يوجد مفهوم الوعي الطبقي، وهو مصطلح يستخدم في العلوم الاجتماعية والنظرية السياسية، ولا سيما الماركسية، للإشارة إلى الاعتقادات التي يؤمن بها الفرد تجاه الطبقة الاجتماعية أو المرتبة الاقتصادية التي ينتمي إليها في المجتمع، وتجاه تركيب تلك الطبقة ومصالحها. وقد يكون تعريف الطبقة الاجتماعية للشخص محددًا لإدراكه لها. فالماركسيون يعرفون الطبقات على أساس علاقاتها بوسائل الإنتاج، لا سيما إذا كانت تمتلك رأس المال. بينما يميز علماء الاجتماع غير الماركسيين بين الطبقات الاجتماعية على أساس الدخل أو المهنة أو الحالة.
مجالات الوعي
يعتبر الوعي الأخلاقي من أهم مجالات الوعي، لأنه يساهم بشكل كبير في تنمية جانب الشعور لدى الإنسان؛ إذ إن النظام الرأسمالي بطبيعته المادية أثّر بشكل كبير على مسألة الوعي الأخلاقي. أما الوعي السياسي فتكمن أهميته في أن الحضارة الإنسانية تقف على مبادئ سياسية محددة تحكم العالم. بينما الوعي البيئي أصبح ضرورة ملحة بسبب تأثيرات التلوث التي تهدد الحياة بشكل عام، والسبب في انتشار ظاهرة التلوث هو المنافسة الاقتصادية التي تحكم العالم. وأخيرًا، فإن الوعي الثقافي يشكل القاعدة المعرفية التي يتحرك على ضوئها المجتمع، ويتفاعل مع واقعه، سواء على مستوى الأفراد أو مستوى الجماعات، أو حتى على مستوى المجتمعات الأخرى.