على مدى قرون طويلة لم تشكل البنية العمرانية للقاهرة عائقًا أمام تنقلات الأفراد وحركة البضائع، ولكن مع نهاية القرن التاسع عشر أحدثت مشروعات التحديث تغييرًا كبيرًا في هيكل المدينة، مُعلنة ميلاد أحياء ومناطق جديدة خارج أسوار وحدود المدينة القديمة، لتدخل القاهرة عصرًا جديدًا مصحوبًا بتحولات كبرى أحدثت فارقًا في ذاكرة المدينة ومشهدها الحضري، نذكر منها ترام القاهرة الذي انطلق من ميدان العتبة الخضراء، مُعلنًا ميلاد عهد جديد باتت فيه أحياء القاهرة وأمكنتها أكثر قربًا من ذي قبل. ومع مرور الزمن شكلت خطوط الترام وقضبانه الحديدية هيكل المدينة، ولعبت دورًا بارزًا في مظهرها العمراني، ومع مرور الوقت تكونت لدى القاهرة هيئة…
على مدى قرون طويلة لم تشكل البنية العمرانية للقاهرة عائقًا أمام تنقلات الأفراد وحركة البضائع، ولكن مع نهاية القرن التاسع عشر أحدثت مشروعات التحديث تغييرًا كبيرًا في هيكل المدينة، مُعلنة ميلاد أحياء ومناطق جديدة خارج أسوار وحدود المدينة القديمة، لتدخل القاهرة عصرًا جديدًا مصحوبًا بتحولات كبرى أحدثت فارقًا في ذاكرة المدينة ومشهدها الحضري، نذكر منها ترام القاهرة الذي انطلق من ميدان العتبة الخضراء، مُعلنًا ميلاد عهد جديد باتت فيه أحياء القاهرة وأمكنتها أكثر قربًا من ذي قبل. ومع مرور الزمن شكلت خطوط الترام وقضبانه الحديدية هيكل المدينة، ولعبت دورًا بارزًا في مظهرها العمراني، ومع مرور الوقت تكونت لدى القاهرة هيئة للنقل العام مسئولة عن تسيير الحافلات العامة ونقل سكان المدينة من خلال أسطول الأتوبيسات المملوك للدولة، ومع حركة النمو العمراني الكبرى التي شهدتها المدن المصرية في السبعينيات إبان فترة الانفتاح وتغير السياسات الاقتصادية، تراجع دور هيئة النقل العام كفاعل رئيسي في منظومة التنقل. ففي منتصف السبعينيات من القرن العشرين، صدر قانون يسمح بتشغيل الميكروباص على عددٍ من الخطوط الثابتة بمدينة القاهرة، لمواجهة العجز في وسائل النقل العامة بالمدينة، ولا سيما مع بدء النمو العمراني غير المنضبط مع بداية السبعينيات وما ترتب على ذلك من تحديات عمرانية وإدارية ضخمة، تبعها مجموعة من التسهيلات لمنظومة النقل غير الرسمى. وطبقًا للمعلومات الرسمية المتاحة، تبلغ ملكية السيارات الخاصة في مدينة القاهرة أكثر من 2.5 مليون سيارة، تشكل نسبة أكثر من 50 بالمائة من إجمالي السيارات الخاصة بمصر، وتعتمد القاهرة على منظومة تنقل، تشكل مزيجًا من النقل العام الرسمي (مترو أنفاق، أتوبيس نقل عام..)، والنقل العام شبه الرسمي (ميكروباصات، حافلات نقل..)، ومنظومة غير رسمية (توكتوك..)، بالإضافة إلى السيارات الخاصة. وتشغل وسائل النقل الرسمية نسبة تصل إلى 30 بالمائة من إجمالي الرحلات بالمدينة، بينما تشكل باقي المنظومة (سيارات خاصة – نقل شبه/غير رسمي) نسبة 70 بالمائة من إجمالي الرحلات بالمدينة، وهي نسبة مرتفعة للغاية.
ومع تفاقم أزمات المرور وتحديات الزحام في بداية الثمانينيات، أُجريت العديد من الدراسات المتخصصة لتحسين التنقل في القاهرة من خلال التركيز على مشروعات التنقل الجماعي، والتي كان أهم إنجازاتها الخط الأول لمترو الأنفاق. ومع النمو المتسارع للقاهرة وزيادة رقعتها الجغرافية ولا سيما مع الامتدادات العمرانية الكبرى ناحية الشرق، لا تزال قضية التنقل وتحديات الحركة تلعب دورًا محوريًا في مستقبل المدينة.
محطة الترام الرئيسية بميدان العتبة بالقاهرة منتصف الثلاثينيات من القرن العشرين (المصدر: مجموعة لنرت ولاندروك)
يتناول هذا المقال مفهوم التنقل الحضري Urban Mobility من خلال التركيز على مدينة القاهرة باعتبارها واحدة من أكبر الحواضر العالمية، والتي تشهد حركة تحديث كبرى بالتزامن مع وتيرة التنمية العمرانية الكبرى التي تشهدها مصر في السنوات الأخيرة، ويأتي على رأسها المشروع القومي للطرق ومشروعات تطوير النقل الجماعي. ونظرًا للكثير من التحديات التي تواجه المدن المصرية، ولا سيما الكبرى منها، والتي يندرج أغلبها في مدى ملاءمة شبكة البنية التحتية لدعم احتياجات المستخدمين المتنوعة، وبالأخص مع دعوات الاستدامة والتزام مصر ضمن رؤية 2030 بتحقيق أهداف أجندة الأمم المتحدة وضرورة ملاءمة أعمال التطوير ومشروعات التحديث لطبيعة المستخدمين واحتياجاتهم دون تجاهل الاعتبارات البيئية الأخرى التي يأتي على رأسها تحديات التغير المناخي، وضرورة الحفاظ على الغطاء النباتي وتكثيفه لمجابهة ظاهرة التصحر، فضلًا عن توفير الظل للمارة، والحد من التأثير السلبي لغياب المسطحات الخضراء من المناطق الحضرية، وهي الظاهرة التي تُوصف علميًا بالجُزر الحرارية، وهو ما يستلزم ضرورة إدماج هذه الاعتبارات ضمن مشروعات تحديث الطرق ومنظومة الحركة في المدينة المصرية، التي تركز على تحقيق السيولة المرورية وتحقيق مزيد من الاتصالية بين شبكة الحركة بالإقليم، مما يتطلب ضرورة التناول الشمولي لمفهوم التنقل كمنظومة متكاملة تتداخل فيها معايير متباينة، تتطلب التنسيق الكافي بين الجهات المسئولة عن تنمية وتطوير شبكة البنية التحتية الخاصة بالتنقل في مصر، خاصة شبكة الطرق والشوارع، لوضع هذه المشروعات ذات الاستثمارات الكبرى على قائمة مشروعات التحول المستدام في مصر.
الطرق والشوارع
الطرق هي بنية أساسية تربط بين وجهتين محددتين (أقاليم، محافظات، مدن)، في حين يشار إلى الشوارع كمساحات عامة داخل البلدات والمدن، سواء كانت حضرية أو ريفية، وبالرجوع إلى توصيف الأمم المتحدة، تُحدد الشوارع باعتبارها منظومة ربط داخل المدن، بينما تُحدد شبكات الطرق كمنظومة ربط بين المدن، مما يفسر اختلاف طبيعة الطرق عن الشوارع، حيث تنحصر وظيفة الطرق في دور وظيفي فقط يتمثل في تحقيق الربط الحركي الخارجي بين المنظومات العمرانية على اختلاف درجاتها، بينما تتعدد وظائف الشوارع من مجرد عناصر ربط وظيفي بين المناطق والأحياء، إلى فراغات عامة ومساحات مشتركة، يتم تنظيمها لتناسب مختلف المستخدمين واحتياجاتهم المختلفة، بحيث يتوافر فيها القدرة على دعم حركة وتنقل الأشخاص والمركبات والسلع والبضائع، بالإضافة إلى الوظائف الأخرى للشارع كمساحة عامة للأغراض التجارية والثقافية والاجتماعية والترفيهية.
من الأعلى، يمينًا، عملية توسيع الطريق الدائري الأول حول القاهرة، نموذج للطرق الإقليمية في مصر، (المصدر: (nilefm.com، الأعلى، يسارًا، الطريق الدولي الساحلي، نموذج للطرق الوطنية في مصر، (المصدر: arabcont.com)، من الأسفل، يمينًا، شارع التحرير بحي الدقي، نموذج للشوارع الشرياينية الرئيسية بالقاهرة، (المصدر: egyptianstreets.com)، المنتصف، شارع الجمهورية بوسط القاهرة، نموذج للشوارع الرئيسية ذات الاتجاه الواحد، (المصدر: تصوير الكاتب، خريف 2020)، يسارًا، شارع أحمد ماهر بقلب القاهرة التاريخية، نموذج للشوارع التقليدية متعددة الاستخدامات، (المصدر: تصوير الكاتب، خريف 2020).
التنقل والنقل
يختلف مفهوم التنقل Mobility عن مفهوم النقل Transportation، حيث يشتمل الأخير على وسائل الحركة المميكنة فقط، بينما يتضمن التنقل كلًا من وسائل الحركة المميكنة (سيارات، أتوبيسات، ترام، حافلات ركاب، عربات نقل بضائع.. إلخ)، بالإضافة إلى الوسائل غير المميكنة التي تُعرف باسم السفر النشط، والتي تتضمن المشي وركوب الدراجات، وعلى مدى أكثر من عشرين عامًا عظمت الكثير من مدن وعواصم العالم مفهوم التنقل النشط كأحد أكثر بدائل الحركة استدامة وفاعلية بالتوازي مع تحسينات كبرى في المرافق العامة والتسهيلات التي توفر بيئة آمنة للمشي وركوب الدراجات. ووفقًا للتوجهات المعاصرة في أنظمة الحركة والتنقل التي صُكت من خلال العديد من المراجع والتجارب العالمية الناجحة في السنوات الأخيرة تمُنح الأولوية في استخدام الشوارع للمشاة ثم لمستخدمي الدراجات الهوائية ثم لمستخدمي حافلات النقل العام على اختلاف أنواعها، وأخيرًا مستخدمي السيارات الخاصة من خلال تخطيط وتصميم متوازن يضمن العدالة والفاعلية في أن واحد.
مفهوم المدينة الناجحة، من خلال القدرة على توفير أنماط وبدائل متعددة للحركة والتنقل ضمن شبكة الشوارع والفراغات العامة، (المصدر: Sim, David, Soft City, Island Press,2019)
منظور متكامل للتنقل المستدام
لم يُطرح التنقل كمنظومة متكاملة ضمن مفاهيم التنمية قديمًا، بخلاف مفهوم النقل الذي يرتكز بشكل رئيسي على زيادة سعة التدفق المروري بالاستناد إلى الوقت والتكلفة كمرجعية رئيسية، وطبقًا لهذا المنظور تُقاس كفاءة النقل من خلال عاملي السرعة والقدرة على تحمل تكاليف الرحلات، ويغلب على هذه المنظومة الكلاسيكية الحلول المجتزأة وغير الفاعلة في كثيرٍ من الأحيان، نتيجة إلى طبيعة العمل المنعزلة للمؤسسات والهيئات المسئولة عن تخطيط وإدارة وتشغيل وسائل النقل، وهو ما تسعى لتلافيه النماذج الجديدة للتنقل بديلًا عن النقل، والتي تستند إلى أهداف التنمية المستدامة، وخاصة الهدف الحادي عشر الذي نص على أن التنقل ليس هدفًا في حد ذاته، وأن الهدف الأسمى “هو الإتاحة الكاملة لوسائل نقل آمنة ونظيفة بأسعار ملائمة للجميع، وهذا بدوره يعزز من سبل الوصول إلى الفرص والخدمات والسلع والمرافق”. وطبقًا لهذا المنظور يمكن تناول مفهوم التنقل المستدام من خلال سهولة وصول السكان إلى وجهاتهم دون أدنى تمييز أو تفاوت طبقًا للقدرة البدنية أو التكلفة الاقتصادية، مما يرسخ من قيم العدالة المكانية ويدفع بقوة نحو تحقيق الاستدامة وتعزيز جودة الحياة، أي إن النموذج المستدام للتنقل يُعطي الأولوية لإتاحة الطرق والشوارع للجميع وليس فقط كفاءة التدفق الكمي للمركبات الآلية ومستخدميها.
المفاهيم المعاصرة للتحول لأنظمة تنقل مستدامة من خلال إعادة تهيئة وتصميم الشوارع لدعم أنماط متعددة من الحركة (المصدر: الرابطة الوطنية للنقل داخل المدن، USA)
القاهرة من منظور التنقل المستدام
المدينة ليست سوى مجموعة من الوظائف، كما عرفها المفكر الكبير جمال حمدان في كتاباته، وهذا هو بيت القصيد. وظائف المدينة والدور الذي تلعبه في المنظومة الحضرية هو الذي يحدد آليات وضوابط التعامل معها، بالإضافة إلى اعتبارات ومحددات أخرى، أهمها قدرة المدن على الصمود والاستجابة للتحديات المستقبلية في قضايا المناخ والبيئة وغيرها، بالإضافة إلى توفير بيئة ذكية قادرة على المنافسة في المستقبل ضمن مفاهيم المدن العالمية Global Cities.
وبالنظر ضمن هذا السياق إلى مشروعات تحديث البنية التحتية بالقاهرة من خلال المشروعات الموجهة لتطوير منظومة التنقل، سواء كانت طرقًا أو مواصلات عامة أو تحسين منظومة المرور؛ نجد أن هذه المشروعات حققت نتائج إيجابية مباشرة، تضمنت إضافة أطوال جديدة لشبكة الطرق، مما ساهم في الحد من الاختناقات المرورية، من خلال إيجاد مسارات بديلة، كما صعدت بمصر إلى مراكز متقدمة ضمن مؤشر جودة الطرق العالمي، وتوفر بنية تحتية محفزة للاستثمار.
وكاي مشروع فان هذه المشروعات قد تواجه تحديات في المدي المتوسط والبعيد، الا ان تلك التحديات يمكن درئها عن طريق تقوية عمليات التنسيق بين الوزرات والهيئات المعنية، بالإضافة الي تعزيز المشاركة المجتمعية والنقاش العام، فضلاً عن التركيز على الاهتمام بإعداد دراسات تقييم الأثر البيئي لتلك المشروعات، والدراسات المتخصصة التي تتعلق بكثافة الأنشطة والاستعمالات، مع ضرورة توفير معايير الحماية للمشاة على محاور الطرق. خاصة وان التركيز على تسهيل حركة السيارات يقوض من فرص وسائل التنقل الأخرى (الآلية والنشطة)، ويقلص من نسب المساحات الخضراء التي يمثل وجودها ضرورة حتمية لتحقيق التوازن البيئي بالمدينة.
إن توافر الرغبة والإرادة السياسية الموجهة لتطوير شبكات الحركة وتسهيل التنقل عبر إقليم القاهرة الكبرى، تمثل فرصة كبرى لتوحيد الجهود وتآلف الرؤى للتحول لمنظومة تنقل مستدامة بالإقليم، وهو ما يستدعي مدخلًا متكاملًا يستند إلى وضع إطار لحوكمة وتمويل وإدارة منظومة متكاملة للتنقل بالقاهرة تستند إلى إتاحة وسائل ملائمة للجميع، مع إعطاء الأولوية لوسائل النقل العام. فكما كتب عمدة العاصمة الكولومبية بوجوتا، فإن المدينة المتقدمة ليست التي يستخدم فيها الفقراء السيارات الخاصة، بل التي يستخدم فيها الأغنياء وسائل المواصلات العامة. وهي الرؤية التي يجب أن تكون ملهمة لعمليات تطوير البنى التحتية في كل المدن، بما فيها القاهرة.