عاد الحديث عن حل الدولتين مرة أخرى، وبثقة كبيرة. تراجع الحديث عن السلام الاقتصادي، واستمر القرار الإسرائيلي بتعليق «ضم» أراضٍ فلسطينية، وعُدنا مرة أخرى إلى حديث قيام دولة فلسطينية ديمقراطية جنبًا إلى جنب إلى جوار إسرائيل الديمقراطية أيضًا، بحيث تعيش دولتان جنبًا إلى جنب فى سلام ووئام. حرب غزة الرابعة خلقت المناخ والتفاعلات الدبلوماسية والسياسية التي تعود بنا مرة أخرى عقودًا إلى الوراء عندما أعلن الرئيس عرفات عن قيام «الدولة الفلسطينية» فى المنفى، وتوالت الاعترافات على الدولة الافتراضية، وبات الرئيس فخورًا بأنه حصل على اعترافات بالدولة بأكثر مما كان لدى إسرائيل فى ذلك الوقت.
الانتفاضة الفلسطينية الأولى سمحت لعرفات بذلك، ولم يمضِ وقت طويل حتى عاد الرئيس ورفاقه إلى فلسطين، فى إطار كيان سياسي فلسطيني، هو الأول من نوعه فى التاريخ على أرض فلسطين. جرى ذلك فى إطار اتفاقيات أسلو وما صاحبها من تفاعلات المفاوضات الثنائية، التي أفرزت سلامًا أردنيًا فلسطينيًا، والمتعددة الأطراف، التي شارك فيها الفلسطينيون رأسًا برأس مع الولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل فى موضوعات تتراوح ما بين المياه وحتى القنابل الذرية. فى النهاية قامت «السلطة الوطنية الفلسطينية» فى رام الله، مشرفة على قطاع غزة بأكمله، والمناطق «أ» و«ب» فى الضفة الغربية، وباتت لها علاقات متشابكة أمنية واقتصادية مع إسرائيل فى إطار درجة من درجات «الاتحاد الجمركي». كان الحلم العالمي بقيام دولتين يتقدم خطوة بعد خطوة، ولكن الحلم انقلب إلى كابوس مع الانتفاضة الفلسطينية المسلحة الثانية، ومن بعدها وفاة عرفات، ثم انقلاب «حماس» على السلطة فى غزة والاستقلال بها فى التعامل مع إسرائيل والعالم وقرارات الحرب والسلام. أصبح هناك عمليًا كيانان لفلسطين وليس كيانًا واحدًا، وبات حلم الدولة بعيدًا حتى جاءت حرب غزة الأخيرة، التي أعادت الموضوع مرة أخرى إلى دائرة البحث العالمية والإقليمية، مع مباركة من القوى الدولية الفاعلة، وفى المقدمة منها الولايات المتحدة الأمريكية.
الدول العربية الآن مطالبة بأن تجعل الدولة الفلسطينية جاهزة لكي تكون دولة بالفعل، وهى لن تكون كذلك إلا إذا كان فيها دولة موحدة الإرادة السياسية، وذات سلطة تحتكر الاستخدام الشرعي للقوة المسلحة، وتمتلك قرارات الحرب والسلام. تحقيق ذلك يواجه تحدى حركة حماس، التي تعتبر مشاركتها فى المواجهة مع إسرائيل محققة لنصر كبير تعطيها الحق فى الحصول على المساعدات الخارجية، وعمليًا تمثيل الشعب الفلسطيني. وبالتأكيد فإن الحرب الأخيرة كانت صرخة فلسطينية بوجود القضية، وأنها لم تمت، ولا يمكن لأحد أن يتجاهلها. عادت القضية بالتضحيات التي قدمها الشعب الفلسطيني. أدت الحرب التي استمرت 11 يومًا إلى مقتل أكثر من 240 من سكان غزة و12 من سكان إسرائيل، وتم تدمير معظم غزة. وفقًا لتقارير دولية، تضرر 17 ألف مبنى وأحياء كاملة. ووفقًا لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، تضرر كل شيء من مرافق الرعاية الصحية إلى البنية التحتية للمياه والصرف الصحي إلى خطوط الكهرباء جراء الضربات الجوية.
لكن «حماس» التي تحكم قطاع غزة وغيرها من الجماعات المسلحة الأصغر مثل «الجهاد الإسلامي» تفاخرت بما وصفته بأنه «هزيمة مُذِلّة» لإسرائيل ولرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو. والحقيقة هى أنه أثناء فترة الحرب أطلقت حركتا حماس والجهاد الإسلامي 4369 صاروخًا من مختلف الأحجام ومدى الصواريخ من غزة باتجاه إسرائيل. ووفقًا للمعلومات المتاحة، فإن ما يقرب من ثلثي هذه الصواريخ أخطأت أهدافها، حيث أصابت الحقول وغيرها من المناطق المفتوحة، أو عُطلت وسقطت بعد وقت قصير. ولا يزال ذلك يترك حوالي 1500 صاروخ توجهت إلى مناطق مأهولة. ومن اللافت للنظر أن هذا الوابل أسفر عن سقوط عدد القتلى المشار إليه فقط من حوالي 150 صاروخًا، بواقع أكثر من 10 صواريخ لكل إصابة، حيث تم اعتراض أكثر من 90% من الصواريخ بواسطة نظام الدفاع الصاروخي القبة الحديدية. المدهش أنه لم ترد فى إعلانات «حماس» معلومات عن الأهداف العسكرية والمدنية التي حددتها عند إطلاق هذه الصواريخ. والمرجح أن الإصابات التي جرت فى إسرائيل كانت فى تلك المناطق، التي لا تتوافر لسكانها «فقاعات» خرسانية للجوء إليها ساعة القصف، وأغلبهم من الفقراء والعرب الفلسطينيين. على أي الأحوال فإن ما حدث فى الحرب ونتائجها سوف يكون موضوعًا للمؤرخين، أما الحاضر والمستقبل فإن عودة الحديث عن «الدولة الفلسطينية» هى فرصة لا ينبغي لها أن تضيع، وربما آن الأوان لكي تتنحى الأطراف التي أدارت القضية خلال العقدين الماضيين، وتعطى الفرصة للأجيال الفلسطينية الصاعدة أن تختار.
ـــــــــــ
نقلا عن جريدة المصري اليوم، ٣٠ مايو ٢٠٢١.