رسائل مصيرية

رئيس الهيئة الإستشارية

حينما وصل وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر إلى إسرائيل قادما من موسكو بعد الاتفاق على وقف إطلاق النار في الحرب الدائرة علي الجبهتين المصرية والسورية وجد عاصفة غضب إسرائيلية في انتظاره. كان الاتفاق الأمريكي السوفيتي هو الإشارة التي ذهبت للمجتمع الدولي في نيويورك لإصدار القرار في ٢٢ أكتوبر، وكانت إسرائيل قد بدأت ثغرة على الجبهة المصرية ترغب في اتساعها استعدادا لمفاوضات ما بعد القتال. ووفقا لما جاء بعد ذلك في مذكراته فإن الداهية قال للإسرائيليين أنه عندما اتخذ القرار بوقف إطلاق النار في الحرب الفيتنامية فإن النيران لم تتوقف فورا وإنما استغرقت بعض الوقت. في كتب ومذكرات أخري قيل أن…

د. عبد المنعم سعيد
رئيس الهيئة الإستشارية

حينما وصل وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر إلى إسرائيل قادما من موسكو بعد الاتفاق على وقف إطلاق النار في الحرب الدائرة علي الجبهتين المصرية والسورية وجد عاصفة غضب إسرائيلية في انتظاره. كان الاتفاق الأمريكي السوفيتي هو الإشارة التي ذهبت للمجتمع الدولي في نيويورك لإصدار القرار في ٢٢ أكتوبر، وكانت إسرائيل قد بدأت ثغرة على الجبهة المصرية ترغب في اتساعها استعدادا لمفاوضات ما بعد القتال. ووفقا لما جاء بعد ذلك في مذكراته فإن الداهية قال للإسرائيليين أنه عندما اتخذ القرار بوقف إطلاق النار في الحرب الفيتنامية فإن النيران لم تتوقف فورا وإنما استغرقت بعض الوقت. في كتب ومذكرات أخري قيل أن ما قاله الرجل هو أن وقف إطلاق النار في فيتنام استغرق أياما. الغريب أنه بعد ذلك عندما سألت د. ويليام كواندت وكان في طاقم مجلس الأمن القومي الأمريكي عن الواقعة، ولم يوردها في كتبه عن الحرب، جاء الرد أنه لم تكن هناك تعليمات رئاسية أمريكية بذلك. كان هنري كيسنجر يدير السياسة الخارجية الأمريكية وفقا لتوجهاته التي قامت على قدمين أولهما مصلحته الشخصية في إدارة ما أسماه “عملية السلام” بعد حرب أكتوبر؛ وثانيا المصلحة الإسرائيلية. بعضا من هذا التعقيد ربما كان دائرا في واشنطن خلال الأسبوع الماضي والذي بدأته واشنطن بالحديث عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وهو ما يعني الهجوم على غزة بكل ما لديها من قدرات؛ ولكن مع منتصف الأسبوع ونتيجة ضغوط كثيرة أعلن الرئيس بايدن عن توصيته لإسرائيل بإيقاف القتال. ظل القتال مستمرا على أية حال بعد موعد النصيحة، ولكن التاريخ سوف يكشف ما الذي صاحبها، وهل كان نوعا من الحزم إزاء الموقف الإسرائيلي أم أنه كانت هناك إيماءة بأن وقف إطلاق النار يحتاج وقتا أكثر مما يتوقع الكثيرون. 

ولكن بغض النظر عن التكتيك والمناورات السياسية التي تذخر بها الحروب، فإن الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها هي أن حرب غزة الأخيرة هي الرابعة في سلسلة من الحروب. وطبقا للبيانات التي نشرها مكتب الأمم المتحدة للشئون الانسانية فإن الحروب الثلاث الأولي في ٢٠٠٨و ٢٠١٢و ٢٠١٤ وحتى ٢٠٢٠ بلغ عدد الضحايا من الفلسطينيين ٥٦٠٠، والجرحى ١١٥٠٠٠. في المقابل فإن إسرائيل خسرت ٢٥٠ إسرائيليا، وبلغ الجرحى ٥٦٠٠. الحرب الحالية لن تكون مختلفة كثيرا في أعدادها عن الحروب السابقة من أنها تعكس واقعا غير متكافئ وغادر تقوم فيها إسرائيل بعدوان يخلو من أي شرف عسكري بلغ فيه الضحايا المدنيين في معظمهم من النساء والأطفال الربع، وهؤلاء كتبوا سجل عار لا يمحي لإسرائيل طالما ظل تسجيل التاريخ. ولكن أيا كانت النتيجة في ساحة القتال فإن الدرس الذي تقدمه الحرب لإسرائيل وعليها أن تتعلمه فهو أنه بعد سنوات من الاعتقاد أن القضية الفلسطينية قد ماتت فهو أن القضية لا تموت لأن القدس لا تموت والشعب الفلسطيني لا يموت، وطالما بقي على أرض فلسطين فإنه سوف يكون دائما مثل طائر العنقاء الذي لا يفني وإنما يولد دائما من جديد. الدرس الآخر أن الفاشية الاستيطانية التي تريد نكبة ثالثة للشعب الفلسطيني تخرجه من دياره وتجليه عن قدسه لن تبوء بالفشل فقط وإنما سوف تنهش في الداخل الإسرائيلي حتى يضيع السلام سواء كان إبراهيميا أم لم يكن وهو الذي أعطي لإسرائيل لأول مرة في التاريخ المعاصر فرصة حقيقية لكي يعيش الإسرائيليون في سلام كجزء من الشرق الأوسط وليس عبئا عليه.  

والدرس الذي آن للإخوة الفلسطينيين أن يتعلموه أن عدالة القضية والحقوق المشروعة لا تكفي لإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية، ولكنها الوحدة الوطنية في السياسة والسلاح هي التي لا تترك فراغا وطنيا يسمح لإسرائيل بالعدوان، ويسمح لقوي إقليمية أخري أن تتلاعب بأشرف القضايا في العالم المعاصر. ولأول مرة في تاريخ القضية فإن العالم كان منقسما إزاء الموقف من الفلسطينيين ليس فقط لأن قضيتهم طالت كثيرا، وإنما لأن إدارة القضية قد باتت في يد من لهم قضايا أخري عالمية وليست وطنية. ولمصر الحبيبة تحية في حربها وسلامها وهي تقف إلى جانب الأشقاء في لحظات العسر والضيق. وبينما يقف رئيسها ساعيا إلى إعادة بناء السودان، فإن رجال مصر الأوفياء في المخابرات العامة والدبلوماسية المصرية والقطاع الصحي يسعون إلي وقف إطلاق النار وعودة القضية الفلسطينية إلي مسارها الصحيح مع تلبية كل المطالب الانسانية والصحية للشعب الفلسطيني الشقيق. 

 ــــــ

نقلا عن جريدة المصري اليوم الأحد ٢٣ مايو ٢٠٢١ 

د. عبد المنعم سعيد
رئيس الهيئة الإستشارية

مقالات أخرى للكاتب

  img

رأي

البعث