لا يمكن أن نتحدث عن طبيعة تحرك الدولة المصرية فى أهم الملفات الإقليمية وكيف تتعامل القيادة السياسية بكل الجدية المطلوبة مع هذه الملفات ولاسيما خلال هذه المرحلة الهامة دون أن نشير إلى أن قوة مصر على المستوى الداخلى تعد أحد أهم العوامل التى تؤثر بالإيجاب على وضعية مصر بصفة عامة وعلى قدرتها فى التعامل مع القضايا الخارجية بصفة خاصة ، وهو الأمر الذى يؤكد أن كل النجاحات التى تحققها مصر على المستوى الخارجى تستند على قاعدة واضحة وهى قوة وصلابة الوضع الداخلى الذى ينطلق منه كل إنجاز يمكن أن تحققه الدولة فى كل مجال .
مسارات التحرك الداخلى
تتحرك مصر على المستوى الداخلى إستناداً على ثلاثة مسارات رئيسية ، ومن الضرورى أن أشير هنا إلى أن أهم ما يميز هذا التحرك أنه يجمع بين مبدأين رئيسيين أولها مبدأ الشمول والتنوع وثانيهما مبدأ التوازى والتوازن ، الأمر الذى يمكن إيضاحه على النحو التالى : –
المسار الأول وهو مسار البناء والتنمية الذى تتحرك فيه الدولة بشكل غير مسبوق لينقلها تدريجياً إلى مرحلة تحديث جديدة تليق بدولة بحجم مصر ، ولاشك أن أهم جوانب قوة هذا المسار أنه يتوسع ليشمل كل أنحاء الدولة بلا إستثناء ولا يقتصر على منطقة جغرافية محددة من أجل أن تنهض الدولة كلها فى وقت واحد ، بالإضافة إلى أن هناك نقطة شديدة الأهمية فى هذا المجال وهى نجاح الدولة فى ربط هذا المسار بمتطلبات الأمن القومى المصرى وهو ما نراه بوضوح فى المشروعات التنموية والإستثمارية العملاقة خاصة تلك التى تتم فى كل من سيناء والمنطقة الغربية .
المسار الثانى وهو مسار التنمية والحماية الإجتماعية التى تمثل الغطاء الآمن للملايين من أبناء الشعب المصرى الذين ترتبط حياتهم ومستويات معيشتهم بالدور الإجتماعى للدولة ، وهو الأمر الذى نراه أيضاً فى الجهد الفائق الذى تقوم به مؤسسات الدولة فى توفير الحياة الكريمة بكافة مشتملاتها للمواطنين من إسكان إجتماعى ودعم مادى ، بالإضافة إلى المبادرات الصحية المليونية المتتالية التى تشمل كل النواحى الصحية للمواطن المصرى الأمر الذى أدى إلى نجاح الدولة فى مواجهة جائحة الكورونا وإن كانت هذه المواجهة الناجحة لاتزال فى حاجة إلى مزيد من وعى المواطنين .
المسار الثالث وهو مسار الدعم المتواصل لقدرات الدولة العسكرية حتى تكون على أهبة الإستعداد لمواجهة المخاطر والتهديدات التى لا تنتهى ، ومن الواضح أن هذا الدعم أدى إلى أن يتم تصنيف القوات المسلحة المصرية بإعتبارها من أقوى عشرة جيوش فى العالم (دخول أحدث غواصة هجومية فى العالم إس 43 إلى الخدمة منذ أيام لتنضم إلى القوات البحرية ) ، بالإضافة إلى الدور التنموى الذى يقوم به الجيش المصرى على المستوى الداخلى فى إطار المنظومة التنموية والإقتصادية للدولة .
مواجهة الإرهاب
وفى نفس الوقت لا يمكن أن ننتقل إلى تحليل التحرك المصرى فى أهم الملفات الخارجية دون أن نشير إلى نجاح مصر بشكل مميز فى مواجهة الإرهاب والقضاء على تهديدات الجماعات الإرهابية وهو أحد أهم متطلبات الإستقرار والتنمية ، وتظل تجربة مصر الفريدة فى مواجهة الإرهاب نموذجاً يحتذى به على المستويين الدولى والإقليمى ، وبالرغم من هذا النجاح فلابد من التنويه إلى نقطتين رئيسيتين : –
النقطة الأولى وتتمثل فى أن التهديدات التى يمكن أن تتعرض لها مصر لن تتوقف ، ومن ثم فإن اليقظة الأمنية والتجاوب القائم مع كل متطلبات المواجهة الأمنية على المستويين المادى والفكرى يجب أن تستمر وتتواصل حيث أنها تمثل حائط الصد الأول فى مجال المواجهة الشاملة للإرهاب .
النقطة الثانية وتتعلق بأن هناك تطورات إقليمية ودولية تشير إلى أن الإرهاب قد يعود بقوة فى أية مرحلة قريبة حيث أن هناك محاولات واضحة لعودة داعش فى كل من سوريا والعراق ومنطقة الساحل والصحراء بالإضافة إلى التأثيرات المتوقعة نتيجة إقتراب موعد إنسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان وهو الأمر الذى يجب أن نتحسب له جيداً من الآن .
أهم الملفات الخارجية
وفيما يتعلق بالملفات الخارجية التى تمثل أهمية وأولوية لمصر فى هذه المرحلة، فمن المؤكد أن الدولة المصرية تبدى إهتماماً واضحاً لكل التطورات السياسية والعسكرية والأمنية والإقتصادية على المستويين الإقليمى والدولى ، حيث أنه لم تعد هناك دولة يمكن أن تحيا بمعزل أو بمأمن دون أن تتأثر بكافة هذه التطورات المتلاحقة خاصة عندما نتحدث عن مصر تلك الدولة الإقليمية العظمى التى تتميز بوضعية إستراتيجية على مستوى العالم وتلعب دوراً هاماً فى صياغة الكثير من الأحداث بل والتأثير المباشر فى هذه الأحداث والتطورات .
ومن هذا المنطلق سوف أركز على أهم ثلاث قضايا خارجية تحتل الأولوية خلال الفترة الراهنة نظراً لتأثيراتها المباشرة على الأمن القومى المصرى وهى قضية السد الإثيوبى والأزمة الليبية والقضية الفلسطينية ، لاسيما وأن مصر تتعامل مع هذه القضايا بكل فاعلية بل لن أكون مبالغاً عندما أقول أن هناك إهتماماً ملحوظاً ومتابعة دقيقة على مدار اليوم بل على مدار الساعة من جانب القيادة السياسية لكل قضايا الأمن القومى بصفة عامة وهذه القضايا الثلاث بصفة خاصة .
قضية السد الإثيوبى
من الواضح أن كافة الجهود السياسية التى بذلت حتى الآن لم تسفر عن أية نتائج يمكن أن نستند عليها فى مجال إمكانية التوصل إلى حل مقبول ومرضى ينزع فتيل هذه الأزمة التى لم يدرك المجتمع الدولى حتى الآن أنها يمكن أن تؤدى إلى تهديد السلم والأمن الإقليمى والدولى ، ومن ثم فإن تعامل العالم مع هذه الأزمة لم يصل إلى المستوى المطلوب والمأمول ويتحمل مسئولية أى تدهور للموقف رغم كل الأدوار الدولية والإفريقية التى بذلت ولكنها تظل فى النهاية أدواراً وجهوداً إفتقدت إلى الفاعلية والتأثير .
لا يزال الموقف الإثيوبى يدور فى نفس أطره السابقة دون أى منطق مقبول أو مبرر مستساغ حيث أن أديس أبابا تواصل المناورات والتسويف وكسب الوقت وطرح مقترحات غير مقبولة بل وتنتهك بكل وضوح ليس فقط القوانين والإتفاقات الدولية ولكنها تنتهك إتفاق إعلان المبادئ الذى وقعت عليه فى الخرطوم فى مارس 2015 وتسعى إلى تفسيره وتنفيذه بشكل أحادى بما يتوافق مع مصالحها فقط وهو الأمر المرفوض شكلاً وموضوعاً .
وفى الجانب المقابل هناك تطابقاً فى الموقفين المصرى والسودانى إزاء ضرورة التوصل إل إتفاق شامل وقانونى وملزم بشأن ملئ وتشغيل السد من خلال المفاوضات السياسية التى لا نزال لم نسقطها من أجندة الحل السلمى للأزمة مع تحرك الدولتين خارجياً لشرح ملابسات الأزمة ، ولكن يظل السؤال المطروح إلى متى سوف تتواصل المفاوضات دون إنجاز .
ولاشك أن عشر سنوات من التفاوض دون تحقيق نتائج ملموسة تعد كافية تماماً ليس فقط للحكم على طبيعة الموقف الإثيوبى المتعنت ، ولكن يجب أن يكون تقييم هذه المفاوضات مع وضوح خطورة الأزمة دافعاً للمجتمع الدولى وخاصة الولايات المتحدة للتدخل من أجل وقف هذه الحلقة المفرغة من المفاوضات والتوصل إلى إتفاق ، وفى رأيى أن عامل الوقت أصبح أكثر أهمية وإلحاحاً من أية مرحلة سابقة وخاصة قبل دخول هذه الأزمة فى منعطفٍ قد لايمكن العودة عنه .
ولعل أية مناشدات للجانب الإثيوبى بأن يكون مرناً وألا يتجه للملئ الثانى المقرر فى يوليو دون التوصل لإتفاق مع دول المصب لم تعد ذات جدوى نظراً للموقف الإثيوبى المتعنت الذى يرفض تقديم أية مرونة حتى الآن ، وبالتالى يجب على أديس أبابا أن تكون على قناعة كاملة بأن مصر لن تقبل سياسة فرض الأمر الواقع ولن تفرط فى حقوقها المائية وهذا هو ما يسمى بالخط الأحمر ، وعلى المسئولين الإثيوبيين أن يدركوا أن مسألة الخط الأحمر ليست مجرد شعار ولكنها تعنى الكثير .
ومن ثم فإن رسالتى هنا تتمثل فى أنه على إثيوبيا أن تعيد دراسة الموقف ككل ولا تظن أنه لكونها دولة المنبع فهى قادرة على أن تتحكم فى حصص المياه القادمة إلى دولتى المصب وتؤثرعلى الأمن المائى لكل من مصر والسودان بكل تداعياته السلبية ، كما أنه على إثيوبيا أن تعلم علم اليقين أن مصر لن تسمح تحت أية ظروف بأن يتم تعطيشها مهما كانت الأسباب والمبررات والنتائج والتداعيات ، ثم كلمة أخيرة أوجهها فى هذه الرسالة إلى أديس أبابا وهى أن الدفاع عن قضية الحياة والوجود أمر من المؤكد أنه يتعدى كل الحدود .
الأزمة الليبية
لاشك أن مصر تحقق حالياً مزيداً من النجاح فى التعامل مع الملف الليبى من كافة جوانبه وهو ما يعكس نجاح رؤية مصر الشاملة للحل منذ بداية الأزمة ، وبدأت مصر تجنى ثمار هذا الجهد المرحب به تماماً من الشعب الليبى ومن القيادة الليبية ، مع تأكيدها على أهمية عودة ليبيا دولة وطنية قوية موحدة تضيف للرصيد العربى وهو الأمر الذى لن يتحقق إلا من خلال الحل السلمى لهذه الأزمة ووقف التدخل الخارجى فى الشئون الليبية وإنسحاب كافة الجماعات والميلشيات من الأراضى الليبية حتى يكون الوضع الداخلى مهيئاً وممهداً للتعامل بنجاح مع متطلبات المرحلة المقبلة .
وفى هذا الشأن يمكن تحديد أهم مجالات الحركة المصرية الحالية تجاه الأزمة الليبية فيما يلى : –
المجال الأول: مواصلة الدعم المطلق للقيادة الليبية الجديدة مع مزيد من التنسيق الثنائى سواء مع الحكومة أو مع المجلس الرئاسى وصولاً إلى الإنتخابات المقررة فى ديسمبر من العام الحالى 2021 .
المجال الثانى: التحرك على المسار الإقتصادى من أجل إحداث نقلة نوعية فى مجال تنمية دولة ليبيا الشقيقة ونفل الخبرات المصرية فى المجالات الممكنة، ومن هنا كانت الزيارة الناحجة التى قام بها رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولى إلى ليبيا يوم 21 إبريل الماضى وبرفقته عدد 11 وزيراً والتى أسفرت عن توقيع العديد من الإتفاقات والتوصل إلى تفاهمات فى العديد من المجالات (العمالة المصرية – البنية التحتية – إحياء اللجنة العليا المشتركة – الكهرباء – الطرق – النقل – تبادل السلع والبضائع ) .
القضية الفلسطينية
لم ولن تتوقف مصر عن دعم القضية الفلسطينية فى كافة المجالات ، وقد أخذت مصر على عاتقها مسئوليات متعددة فى الملف الفلسطينى من بينها المصالحة وإنهاء الإنقسام والتهدئة وتبادل الأسرى ، بالإضافة إلى التأكيد على أن حل القضية الفلسطينية يمثل مفتاح الإستقرار فى المنطقة وهو ما لن يتحقق إلا بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة وعاصمتها القدس الشرقية وهو ما يعد ترجمة حقيقية لمبدأ حل الدولتين الذى يجب أن يتم تنفيذه من خلال المفاوضات .
وفى الوقت الذى تقدم فيه مصر كل الدعم من أجل ترتيب البيت الفلسطينى من الداخل حيث إستضافت القاهرة جولتى حوار لكافة الفصائل الفلسطينية فى شهرى فبراير ومارس الماضيين ، فإن مصر حريصة أيضاً على ألا تتدخل فى القرار السياسى الفلسطينى وتظل أكثر حرصاً على ألا تؤدى أية تطورات داخلية إلى مزيد من الإنشقاق والإنقسام والخلاف فى وقت من المفترض أن يكون فيه الفلسطينيون فى أمس الحاجة إلى التوحد ونبذ الخلافات الحزبية الضيقة فى مواجهة مخططات التهويد والإستيطان ورهان الأحزاب الإسرائيلية على إلتهام ما تبقى من الأرض الفلسطينية حيث أن الخلافات الداخلية مهما كانت مبرراتها لا يمكن أن تصب فى صالح القضية الفلسطينية .
الخلاصة
تتعامل مصر مع ملفات الأمن القومى بكل جدية وتنطلق معالجتها لهذه الملفات من أرضية قوية تتمثل أساساً فى صلابة الوضع الداخلى بكل مكوناته ، وإذا كان لى أن أوجه رسالة فى هذا المجال فإنى أوجهها إلى الشعب المصرى بأن يثق فى قيادته السياسية ويلتف حولها بكل قوة وأن يكون على قناعة بأن قيادته الوطنية برئاسة السيد / الرئيس عبد الفتاح السيسى حريصة وقادرة بإذن الله على أن تحقق كل طموحات هذا الشعب العظيم سواء على المستوى الداخلى وهو ما نراه من تنفيذ مشروعات عملاقة متنوعة فى وقت قياسى ، أو فيما يتعلق بكافة الملفات الخارجية التى تتحرك فيها الدولة برؤية واضحة ودراسة متأنية للغاية من أجل أن يتم إتخاذ القرار فى الوقت المناسب وبالفاعلية المطلوبة ، وسيظل القرار السياسى المصرى قوياً وصائباً مادام نابعاً من قيادة وطنية صادقة وواعية ومدعوماً من شعب حضارى يضحى بكل ما يملك من أجل الحفاظ على تراب وطنه المقدس .
نائب المدير العام للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية