هناك مدرسة في التفكير المصري تقوم على «إدارة الفقر»، والمعنى أنه ليس مستحبًا أبدًا أن نبدأ في مشروعات جديدة ما لم نصلح تلك القديمة، ويدخل ذلك عادة في «فقه الأولويات» وما يحتاجه المنزل «يحرم على الجامع». والحقيقة أن ذلك ليس فكرًا مصريًا خالصًا، فعندما كنت في الولايات المتحدة كان فيها أيضًا الساخطون على برامج الفضاء، على اعتبار أن مَن في الأرض لهم أولوية على مَن هم في السماء، خاصة أن عدد الفقراء يصل إلى أكثر من 50 مليون نسمة، وهناك طلبة يستمرون في سداد ديونهم الجامعية طوال حياتهم العملية. في مصر تثور القضية كلما كان هناك بناء لمدينة أو مؤسسة تعبر عن أشكال أخرى من الحياة والعمل تختلف عن المدن والمناطق الشعبية التي عهدناها والعشوائيات التي نعرفها، من حيث غِناها وجمالها وإمكانياتها في التعامل مع القرن الواحد والعشرين. وفى زمن عندما كان مطروحًا ضرورة اللحاق بعصر الكمبيوتر في مدارسنا، كان هناك مَن يتهكم بضرورة سد احتياجات المدارس من «الطباشير» أولًا.
وثارت قضية «الأولويات» مؤخرًا عندما جرت المقارنة بين مشروع القطار السريع، الذي يتكلف 350 مليار جنيه، وإصلاح منظومة السكك الحديدية، التي تتكلف 250 مليار جنيه، وما إذا كان واجبًا إنشاء الأول قبل الثاني. بالطبع، هناك مشكلة كبرى في فهم الأرقام الكبيرة، فهي لا تقول لنا عدد سنوات إنفاقها، والعائد الذي سوف يأتي منها، وما الجزء المصري الذى سوف يُنفق منها، وذلك الذى سوف يرتب تبعات خارجية. ولكن القضية عندما تُطرح على إطلاقها تبدو كما هو متوقع وكأنها مقارنة ما بين احتياجات المرفهين والآخرين الفقراء و«الغلابة»، أو هؤلاء العائشين على قمة الجبل وهؤلاء المنتشرين عند السفح.
الأمر لا يكون هكذا إذا ما جرت النظرة إليه من زاوية «التقدم»، الذي هو حالة شاملة من التغيير في اتجاه المستقبل، الذي تكون فيه حياة الناس أطول عمرًا وأفضل عيشًا وأكثر سعادة، وتكون فيه الأمم أعظم مكانة وأرحب خلقًا فى الحرية والتسامح. ومثل هذه الحالة لا يمكن حدوثها دون تراكم رأسمالي كثيف وسريع، ويعيش حالة من السباق مع 191 دولة أعضاء في الأمم المتحدة. ومصر رغم أنها بدأت رحلتها مع «التقدم» و«الحداثة» مبكرًا نسبيًا عن غالبية دول العالم، فإنها الآن بعد أكثر من مائتي عام لا تزال مكانتها وموقعها متأخرين. أولًا لأنها رغم مذاقها للثورة الصناعية الأولى قبل كثيرين فإن الثورة لم تصل إلى المصريين إلا بعد قرن كامل، ولم يعرف المثقفون المصريون الكتابة على الآلة الكاتبة، التي هي أحد منتجات الثورة الأولى، إلا بعد قرن ونصف القرن. وثانيًا أن الثورتين الصناعيتين التاليتين تجاوزتا مصر بمراحلها المختلفة، وما تحاوله مصر الآن هو محاولة تصحيح هذا الخطأ التاريخي مع ملامسة الثورة الرابعة قبل أن تذهب إلى آفاق أبعد. وثالثًا أن القَدْر الذي حققناه من «تقدم» قام في الأساس على إعطاء ما هو متقدم «أولوية»، فتغلبت القطارات والسيارات على الدواب، ومدارس البنات والبنين على الكتاتيب، والجامعات المدنية على الجامعة الدينية الوحيدة التي لكي تعيش عصرها كان ضروريًا أن تلحق بها. الصناعة قامت لكي تنهض بالزراعة، وجاءت الخدمات لكي تأخذ بيد كلتيهما إلى العصر الحديث.
“القطار فائق السرعة” يعبر عن منطق يتجاوز ما هو قديم، ويسهم في بناء نموذج جديد للتغيير عما هو معتاد. هو اختراق لأزمنة مختلفة ترنو إلى علاقة مختلفة مع المكان حيث العيش والتطور والإنتاج والجغرافيا؛ والزمن حيث السباق والتاريخ.
هل تستطيع مصر أن تفعل هذا وذاك؟، والإجابة هنا ليست عما إذا كان الاختيار ملائمًا، وإنما أن الاستطاعة واجبة، وهي عملية سياسية واقتصادية من الطراز الأول. هل يمكن تحقيق ذلك؟، والإجابة هي أنه هذه المرة لا يوجد خيار آخر، وما علينا إلا تقسيم العمل بين المؤسسات التي تشرع والتي تنفذ، فلا وقت آخر يمكننا أن نضيعه، وبدلًا من لطم الخدود على الأولويات المغدورة، فإن المطلوب هو تجاوز التخلف وتحقيق التقدم. كيف يحدث ذلك في السكك الحديدية، وفى العشوائيات، وفى البيروقراطية المتخلفة؟ أولًا: معرفة كيف فعلتها دول وأمم أخرى تعرضت للاستعمار ودمار الحروب، وأحيانًا القتل بالأسلحة النووية، وثانيًا: التعرف على فضيلة المثابرة والاستمرار في مسيرة التقدم التي قطعتها الصين في أربعة عقود، وكوريا الجنوبية في ثلاثة، وفيتنام في عقدين.
عندما نقلت مصر مومياءها الملكية من المتحف القديم إلى متحف الحضارات الجديد، فإنها كانت تعنى بالفعل رسالة للعالم وللمصريين.
ـــــــــــــــــــــ
نقلا عن جريدة المصري اليوم، الأحد ٤ أبريل ٢٠٢١.