عشت الزمن الذي ولد فيه مصنع الحديد والصلب فى حلوان، وكيف أنه بات عنوانا عن دخول مصر ما عرف بعصر «التصنيع الثقيل»، وكان ذلك تمييزا عن «التصنيع الخفيف» الذى لا يليق بدولة متقدمة وثائرة. وعشت أيضا الأزمنة التي تلت ذلك وطالت لأكثر من أربعة عقود مضت بات معلوما فيها أن المصنع لم يعد يخضع لأي من القواعد الاقتصادية المتعارف عليها فى المؤسسات الاقتصادية فى الدول «الصناعية» الحقة. فلا هو يصدر ويولد العملة الصعبة، ولا هو يكسب ويأتي بالأرباح التي تفيد الموازنة العامة، ولا هو محتمل أن يكسب لأنه قام على تكنولوجيا مقاربة للثورة الصناعية الأولى مع بعض التحسينات، والأخطر أنه بات خاضعا لكل القواعد التي تشمل العنوان «القطاع العام» من عمالة متضخمة، وتحول المصنع عن جوهر عمله فى إنتاج الحديد والصلب إلى أن يكون نوعا من الخدمة الوطنية التي تتحدث عن العمالة والقيمة «الرمزية» و«الوجدانية» و«التاريخية» لمصنع كان محظوظا أنه أنشئ فى عصر الرئيس جمال عبدالناصر فحصل على حقوق لم يحصل عليها مصنع فى العالم وهى البقاء حتى لو خمدت أفرانه وتوقف عن الإنتاج. فى العقدين الماضيين عشت قصة المصنع بشكل متواتر كلما حل وزير جديد لقطاع الأعمال العام، فلم يكن هناك أمام كل الوزراء إلا ما يشهد أن المصنع لم يعد له أي نوع من أنواع الفعالية الاقتصادية ومن ثم وجبت تصفيته، وفى كل مرة كانت الدنيا تقوم ولا تقعد، وكانت البداية الصاخبة تعقبها بداية أخرى فيها بعض حكمة وهي إصلاح المصنع التليد، وبعد ذلك بات «الإصلاح» «هيكليا» دلالة على الحزم والعزم فى تغيير حال بائس.
كانت الثورة الصناعية الثالثة قد حلت، وأذكر أن المرحوم د. محمد السيد سعيد تبنى فكرة مؤداها أنه أما وأن مصر قد فاتها اللحاق بالثورات الصناعية الأولى والثانية، فإن عليها أن تحدث طفرة كبيرة باللحاق بالثورة الجديدة، والمرجح أنه لو كان معنا الآن لفضل عليها الثورة الرابعة. فى هذا الإطار فإن تصفية مصانع تنتمي إلى الثورة الأولى، وهناك بالفعل فى مصر مصانع عظمى تعدت الثورة الثانية إلى بعض من الثالثة ولديها من التكنولوجيا ما يكفى للتصدير والمنافسة الدولية، فإن الضجيج الحالي حول المصنع لا يوجد ما يبرره. وللعلم فإن الثورة الراهنة فى المواد الجديدة باتت تهدد بقوة صناعة الحديد والصلب ذاتها، وفى مصر حاليا وفى محور قناة السويس وحده مصانع بالغة الحداثة بعضها من الصناعات التقليدية من الحديد والصلب إلى الأسمدة، ولكن فيها أيضا الجديد أو صيحة العصر مثل «الفايبر جلاس» الذي يعتمد على ثروتنا الضخمة من الأحجار والرمال. هذا النوع من المواد الجديدة يصنع أبوابا وأجزاء من السيارات، والمنتجات المنزلية من الغسالات والثلاجات، وهي مواد صلبة قوية والأهم أنها لا تتمدد بالحرارة ولا تنكمش بالبرودة ومن ثم مقاومة لعناصر الطبيعة المختلفة.
وبصراحة فإن «تاريخية» مصنع الحديد والصلب الذى يهز المشاعر والوجدان، تخص جماعة ضيقة من المتحمسين الذين أدمنوا التعايش مع الخسارة الاقتصادية والتخلف التكنولوجي طالما أن لها عائدا رومانسيا. ومع كل الاحترام والتقدير للرئيس الخالد جمال عبد الناصر فإنني لا أظن أنه لو كان معنا اليوم لوافق على استمرار المصنع.
الآن فإن ٨٠٪ من المصريين لم يعيشوا ذلك العصر مرهف المشاعر، ولا توجد رابطة بينهم وبين هذه النوعية من المصانع التي فاتها العالم منذ وقت بعيد، لأن الحكمة المتوافرة كانت كافية للعلم أن فشل عمليات الإصلاح وإعادة الهيكلة المتواترة لا يكفيها تغيير الإدارات المستمر والإنفاق الرهيب بدون عائد.
المشكلة الأعمق فى مصنع الحديد والصلب وشركات القطاع العام الأخرى أنها فى حقيقتها لا يملكها أحد، وملكية الشعب لها فضلا عن «صوريتها» التي تجعلها تستبعد الحساب الذي تفرضه أسعار الأسهم فى البورصة وحقوق المستثمرين فى الجمعية العمومية، فإنها بالفعل تطبق قاعدة «عايز حقي» التي تبيح لكافة أفراد الشعب القضم فيها دون إضافة أي شيء يذكر.
وبصراحة أكثر فإن إدارة «الثروة» المصرية لا تسمح بأن تكون المهمة الاقتصادية للدولة هي إدارة الخسارة والتعامل معها كنوع من القضاء الحتمي والأقدار النافذة. لا تنسوا أننا ننمو بمعدل مليونين وأكثر كل عام، وأن العالم يسبقنا بالكثير الآن وهناك عزم فى البلاد الأخرى أن يظل سابقا لنا، وإذا كنا نريد تحقيق هدف أن نكون بين الثلاثين دولة الأكثر تقدما فى العالم عام ٢٠٣٠ فلن يكون ذلك باستمرار شركات تضيف للناتج المحلى الإجمالي ولا تخصم منه.
نقلا عن “جريدة المصري اليوم”، الإثنين ١٨ يناير ٢٠٢١.