عشت الأزمنة التي كانت فيها الأزمات الاقتصادية نابعة من الندرة التي كان المعروض فيها دائما أقل من الطلب. كان انقطاع الكهرباء والمياه من الأمور المعتادة، كما كان الخبز ومحتويات صنعه من دقيق وعناصر أخرى في حالة مستمرة من النقص، وقس على ذلك أمورا كثيرة من أنابيب البوتاجاز إلى المساكن. كانت الصيحة الحكومية الدائمة هي الشكوى أولا من الزيادة السكانية، وثانيا أن هناك نهما استهلاكيا زائدا بات من القبائح العامة. لم تكن الشكوى من «الست سنية» التي تترك الميه «ترخ» من الحنفية التي ذاعت في إعلان خلال الستينيات من القرن الماضي إلا لوما على الإهمال، وليس لأن صناعة الحنفيات كانت رديئة. لم تكن «النخبة المصرية» أيامها ترى في مثل هذه الأمور عيوبا هيكلية في النظام وفكره، وهي تمارس مناقشاتها العميقة في المقاهي الليلية في الأمور الكونية والفلسفية، والقضايا العظمى للوحدة العربية وتحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وأضيف لها فيما بعد من القنطرة إلى القنيطرة. كانت العلاقة بين العرض والطلب مختلة في كافة أمور الحياة، وظهرت فى مشاهد موجعة على سلالم حافلات المواصلات العامة، وجرى تسجيلها في طوابير طويلة كثيرا ما انفلت حالها بالتشابك عندما تفلت الأعصاب، وبالقتل إذا ما خرجت الأمور عن حدها. لفترة طويلة سجلت السينما المصرية هذه المشاهد الموجعة، وكانت بداية التسجيل من قبل القادمين إلى مصر من العرب والأجانب، بقدر ما كانت حكما على إخفاق القيام بمهمة تاريخية للخروج بمصر من صفوف الدول النامية التي قيل عنها العالم الثالث، والجنوب أيضا، إلى صفوف الدول المتقدمة والصناعية التي غمرتها حضارة العصر.
الآن أصبحت الأزمة المصرية مختلفة، فلم تعد قائمة على فقر العرض وإنما على وجود الطلب الكافي رغم وجود سوق قدرها ١٠٠ مليون نسمة وأكثر. الفائض يوجد في الكهرباء وفى الطرق وفى الموانئ وفى الحافلات العامة، ومؤخرا في البطاطس والطماطم والخضروات بصفة عامة. بعض من اختلال العلاقة راجع لأزمة الكورونا التي قيدت الصادرات المصرية، والبعض الآخر لحرص الأسرة في الإنفاق الذي يصاحب الأزمات الصحية والتي عادة ما يصاحبها أزمات اقتصادية أيضا. المعالجة العالمية لهذا النوع من الاختلال تكون عادة بتحفيز الطلب من خلال منح إعانة البطالة، وأحيانا كما هو الحال فى حزمة التحفيز التى أقرها الكونجرس الأمريكي مؤخرا (٩٠٠ مليار دولار)، فإنها تمنح كل فرد أمريكي ٦٠٠ دولار (الرئيس ترامب يريدها ٢٠٠٠). الحالة المصرية مختلفة فهي من ناحية تدل على المدى الذي وصلنا إليه في عملية التنمية بصفة عامة والتى استمرت رغم الأزمة العالمية، ومن ناحية أخرى فإن تصحيح الخلل بين العرض والطلب لا بد له أن يتوفر له مزيد من الدفع فى معدلات النمو. وهذا ما نفعله في الكهرباء بتوفيرها للمزيد من الصناعات، وفى التصدير إلى الدول المجاورة مثل السودان. وفى الطرق فإننا نفتح مجالات جديدة للاستثمارات غير العشوائية على جوانب الطرق في مدن جديدة خلابة ورائعة. فى الحالتين فإننا نستمر فى دفع عجلة الاقتصاد لكي يكون جاهزا لانطلاقة أكبر بعد الأزمة.
“أزمة البطاطس” مستغربة بسبب ما هو معروف عن حب المصريين لها، وما لها من فوائد غذائية، وتجهيزها بطرق مختلفة شهية، والمستغربة أكثر بعد هذا الكم الهائل من مصانع «الشبسى» وإنتاجها وإلحاحها في الإعلانات. ولكن الشهادة هنا تعنى أن العرض لا يزال كبيرا، وعندما تكون الصادرات غير متاحة، فإن التفكير يذهب إلى حاجتنا لزيادة قدراتنا على التخزين الذي هو الآخر من دوافع التنمية كقطاع هام في الاقتصاد الوطني. وبالمناسبة فإن التخزين الذي تم في السنوات السمان قبل آلاف السنين لكي تستخدم السلعة في السنوات العجاف بعدها ليس مجرد قاعات مغلقة، أو صوامع محكمة فحسب، وإنما هو صناعة متكاملة من الثلاجات ووسائل الحفظ وما يلحق بها من صناعات، والنقل إلى الموانئ والمطارات أو عبر الحدود إلى الدول المجاورة. الأمر هكذا يحول الأزمة الطارئة إلى فرصة هي في حد ذاتها عاكسة لما في عملية التنمية من تعقيد العلاقة بين العرض والطلب، التي كلما تعرضت لأزمة أو اختناق فإن التعامل معها يفتح أبوابا أخرى للبحث العلمي، وترقية وسائل الإنتاج، ويفتح الباب لمذاقات وأذواق مختلفة، وفى كل الأحوال فإنه يزيد من فرص العمل والإنتاج وتحقيق الفائض الذي يكمل الدائرة الجارية من ناحية، ويفتح دائرة أخرى، من جديد، من النمو أعلى وأرقى.
نقلا عن جريدة المصري اليوم، الأحد ٢٧ ديسمبر ٢٠٢٠.