هذا اقتراح أعيده مرة أخرى لتسمية العاصمة الإدارية بالاسم العربي للعاصمة القديمة: «طيبة». والمناسبة أولا أن عام «كورونا» آخذ في الأفول، وما قمنا به من تأجيل افتتاح المشروعات العملاقة لم يعد مبررا بعد أن بات اللقاح على الأبواب، والأهم أننا قد عقدنا العزم على الفصل ما بين تنمية وتعمير وإصلاح مصر، وما يأتي إليها من نوائب الإرهاب أو الجائحة. وثانيا أنني أرى جمعا من الأصدقاء المحترمين الذين باتوا محبذين لتسمية المدينة الجديدة باسم «المحروسة»، ومنهم الأستاذ الدكتور الجليل سعد الدين إبراهيم، والعميد الدكتور مصطفى الفقي، والأستاذ الكبير صلاح منتصر. ولا أجادل هنا في جلال التسمية، فكلمة المحروسة ذات وقع ديني يضع للمكان مكانة خاصة إما أنها إلهية تأخذ رحيق «كنانة الله في أرضه» الذي توصف به مصر كلها، أو أنها محروسة بأولياء الله الصالحين بمقامات الشرفاء والشريفات من أهل البيت الكريم. ولكن التسمية تجد أصولها في القاهرة، التي قيل عنها إنها «قاهرة المعز» بمنابعه الفاطمية الشيعية واحتفالاتها وتقاليدها التي تركت بصماتها على التاريخ المصري قديمة ومعاصره. ولعل ذلك أول الأسباب في عدم حرمان القاهرة «التراثية» مما تراكم على تسميتها من تقاليد خاصة بأهل مصر، والذي لم يكن له صفة رسمية قط، ولكنه في كل الأحوال صفة وعنوان وتجلٍ عن أسرار خفية لا يعرفها إلا من سكن المدينة وعاش فيها. وفى الحقيقة أن صفة «المحروسة» من الصفات الشائعة في مدن عربية أخرى، أعرف منها مدينة «الجزائر» كنوع من التمييز بين العاصمة واسم البلد نفسه. وهو أمر منتشر بين المسلمين في بلدان عربية كنوع من تعاويذ الحماية ونبذ الشر ودفع عيون الحسد والغيرة من قبل أهل شر.
«طيبة» تعود بنا مرة أخرى إلى أصولنا الأولى كما فعلنا من قبل عندما أقيمت مكتبة الإسكندرية عندما أقبل العالم علينا محتفيا ومحتفلا لأنه يعيد أصلا تاريخيا إلى الوجود مرة أخرى، ولاتزال حتى الآن تلعب دورا رياديا فى إعطاء العالم وأهل البحر المتوسط رحيقا مصريا خاصا. وخلال هذا العام الذي لم يكن سعيدا بحال فإن رسائل المصريين الأوائل توالت باكتشاف مقبرة «واحتي» وما تلاها من بعث أكثر من مائتي تابوت وجثمان جاءوا بمصريين من عالمهم القديم بكامل حالتهم، وألوانهم، وأسرار معيشتهم، لكي يشدوا على أيادينا ربما، أو ليذكرونا بدولة متكاملة الأركان، في وقت كانت فيه بقية الدنيا قبائل وعشائر. الرسائل القادمة سواء جاءت قبل ٤٥٠٠ عام أو قبل ٢٥٠٠ عام جميعها جاءت بالعلم والنضج الاجتماعي والغنى الأخلاقي، وكلها شاهدة على دولة عظيمة لها سماتها الخاصة المصرية الأصيلة، وليس تلك التي اختلطت مع غزاة وفاتحين. ما أتى إلينا جاء نقيا ومصريا أصيلا لا تشوبه شائبة، وعندما نخلد اسما من أسمائهم في مدينة جديدة فإن الامتداد التاريخي من الماضي السحيق إلى المستقبل البعيد يصبح مشهدا وذكرى ورؤية لأجيال مصرية الآن قدر لها أن تسترد المكون المصري في هويتها وأصالتها.
«طيبة» سوف تكون زهرة مدائن مصر للدولة المصرية والعالم، ليس فقط لأنها «آخر عنقود» العواصم المصرية، أو لأن فيها متحف العواصم الذي جاءت شعلته لكي تنتقل من عاصمة إلى الأخرى عبر ما يزيد على خمسة آلاف عام، وإنما لأنها تؤرخ لزمن من الوطنية المصرية الخالصة جرى فيه بناء بعد هدم، وارتفاع بعد هبوط، ورقى بعد تخلف. أردنا أو لم نرد فإن العالم كله لا يعرف عنا إلا أصولنا الفرعونية، هي بداية كل أطفال العالم في كتب الدرس، وعند البعد عنها نكون جزءا من أجناس وأقوام أخرى، كان لها دائما تاريخها العظيم أيضا ولكن ساعتها لا نصبح مصريين خالصين، وإنما نحمل شرف وذنوب دول أخرى كانت عواصمها في دمشق وبغداد وحواضر أخرى. ما يدفع إلى التسمية أيضا الرؤية التي حكمت بناء العاصمة الإدارية والتي قامت على الفخامة والاتساع والبراح والسهولة والميلاد في قلب القرن الواحد والعشرين. لسنوات وقرون ضاقت الدنيا بالعمارة المصرية لكي تكون منغلقة على ذاتها حتى كان للحارات أقفال وللشوارع ضيق، فقيرة المشهد، وبخيلة حتى على المساجد والكنائس ودواوين الحكم والسلطان. أسرة محمد على فتحت علينا بالقاهرة الخديوية ومصر الجديدة، ولكن السنون جاءتنا بالعشوائيات وكأن «المحروسة» باتت بلا حراسة. لقد اقتربت ساعة القرار، والانتقال إلى العاصمة الجديدة، ومثل ذلك يوصف بالتاريخ الذي سوف يسجل أنه بعد آلاف الأعوام بعثت حضارة من جديد بعد أن ساد الظن أنها ماتت أو أن أهلها كانوا من «المساخيط».
نقلا عن جريدة الوطن، الأحد ٦ ديسمبر ٢٠٢٠.