الانتخابات الأمريكية

ما بعد الانتخابات الأمريكية

قد يكون الحديث عما بعد الانتخابات الأمريكية فيه نوع من العجلة والبحث عن المجهول نظرا لأهمية الرئيس الأمريكي في النظام السياسي للولايات المتحدة، وأهمية هذه الأخيرة في النظام العالمي. ولكن احتمالات العجلة تعود في جوهرها إلى أن المعركة الانتخابية تبدو كما لو كانت فاصلة بين عالمين أحدهما لترامب والآخر لبايدن، وأن العالم كان ساكنا خلال السنوات الأربع الماضية ولم يحدث فيه لا تغيير ولا تطور. وجهة النظر هذه ثقيلة على الخاطر لأن الحياة والعالم والدنيا بأسرها لا يتوقف نبضها على فرد أو انتخابات مهما كانت أهميتها ومركزيتها. وعلي أي الأحوال فإنه في كتابات أخري جري أربعة سيناريوهات لنتيجة الانتخابات الأمريكية:…

د. عبد المنعم سعيد
رئيس الهيئة الإستشارية

قد يكون الحديث عما بعد الانتخابات الأمريكية فيه نوع من العجلة والبحث عن المجهول نظرا لأهمية الرئيس الأمريكي في النظام السياسي للولايات المتحدة، وأهمية هذه الأخيرة في النظام العالمي. ولكن احتمالات العجلة تعود في جوهرها إلى أن المعركة الانتخابية تبدو كما لو كانت فاصلة بين عالمين أحدهما لترامب والآخر لبايدن، وأن العالم كان ساكنا خلال السنوات الأربع الماضية ولم يحدث فيه لا تغيير ولا تطور. وجهة النظر هذه ثقيلة على الخاطر لأن الحياة والعالم والدنيا بأسرها لا يتوقف نبضها على فرد أو انتخابات مهما كانت أهميتها ومركزيتها. وعلي أي الأحوال فإنه في كتابات أخري جري أربعة سيناريوهات لنتيجة الانتخابات الأمريكية: أولها شائع وهو فوز بايدن لأن استطلاعات الرأي العام تقول لنا ذلك؛ وثانيها غير شائع وهو فوز ترامب لأن استطلاعات الرأي العام لا يمكن الوثوق بها بسبب الانتخابات الماضية عام ٢٠١٦، ولأن الاقتصاد الأمريكي يبدو في طريقه للتعافي علي ضوء إحصائيات الربع الثالث من العام والمقدر إعلانه قبل الانتخابات؛ وثالثهما أن النتيجة سوف تكون ذات فارق ضئيل في الأصوات تحتم أزمة دستورية وشرعية تصل عبر الكونجرس إلي المحكمة الدستورية العليا وفي هذه فإن ترامب مؤكد الفوز نظرا لما حصل عليه الجمهوريون والمحافظون في عهده علي تفوق يصل إلي ٦ مقابل ٣ بعد تعيين القاضية الأخير “إيمي كوني باريت”. ورابعها أن الأزمة الدستورية قد تكون أكثر حدة مما يتوقع كل الأطراف السياسية ويكون هناك تخوف من حرب أهلية يقرر بسببها عدد من الجمهوريين في مجلس الشيوخ عقد صفقة مع ترامب كتلك التي حدثت مع نيكسون فيكون العفو مقابل الاستقالة. 

أيا ما سوف تكون عليه النتيجة فإن الرئيس الأمريكي سواء كان ترامب أو بايدن فإنه داخل أمريكا سوف يكون عليه مواجهة فيروس كورونا الذي سوف يمثل حقيقة واقعة لابد من التعامل معها ليس فقط على المستوي المحلي وإنما على المستوي العالمي أيضا. في الداخل الأمريكي وضع ترامب بصمات في قضايا مثل الهجرة والتجارة الدولية والعلاقة مع الحلفاء لا يمكن تجاهلها.  وأيا كانت شخصية الرئيس فإن الجمهوري أو الديمقراطي عليه أن يواجه الانقلاب الذي حدث في الثروة الأمريكية وتوجهها نحو الشركات الكبرى الرقمية الأربع (آبل ومايكروسوفت وأمازون وألفابيت أو جوجل) وكلها تجاوزت التريليون دولار من حيث القيمة، والأولي منها “آبل” أصبحت قيمتها تريليونين من الدولارات. الصيحة الآن بين اليمين واليسار الأمريكي هو ضرورة تطبيق قانون منع الاحتكار الذي سبق تطبيقه على شركات مثل “الاتصالات الأمريكية” و”مايكروسوفت” من قبل وآن الأوان لتطبيقه على هذه الشركات الآن وليس غدا. الحقيقة هي أن أمريكا تغيرت أثناء فترة ترامب، وجرت إعادة صياغة مؤسساتها، بل أن نظرتها للتاريخ الأمريكي تغيرت أيضا، ولم يكن ذلك ما أراده الرئيس فقط، وإنما كان موجة سياسية وفكرية عالية كان ترامب معبرا عنها. بمعني آخر أنه حتى إذا ما ذهب ترامب، وهو محض احتمال، فإن “الترامبية” لن ترحل لأن الكتلة السياسية المعبرة عنها سوف تظل باقية وضاغطة، ولن تسمح بالعودة إلى الوراء من وجهة نظرها مرة أخري. 

العالم لن يكون مختلفا عن الولايات المتحدة، فجائحة الكورونا تمثل استمرارية مميتة لا يمكن تجاهلها، ومجاهدتها مكلف في كل حالات المواجهة والتعايش معها. الثابت حتى الآن أن الفيروس يتحول كثيرا ويتغير، وهناك شواهد كثيرة على سرعة انتشاره وظهوره في شكل موجات متتالية. الأخبار السعيدة هي أن اكتشافه بات أكثر سهولة، والتعامل معه بات أكثر سلاسة، والعالم أصبح منقسما بين الدول الاسيوية التي نجحت والدول الغربية التي أخفقت، ومن الأولي ما ينبغي اتباعه، ومن الثانية ما ينبغي تجنبه. حل المشكلة الصعبة بين الصحة والاقتصاد بات ممكنا، ولكن الحياة لن تعود إلى ما كانت عليه، وهناك حقائق لم يعد ممكنا تجاهلها بعد أن كشفت الجائحة عنها. ظهور الصين على الساحة الدولية خلال الفترة الراهنة من العلاقات الدولية جعل أمورا كثيرة تبرز على حقيقتها، وأكثرها أهمية أن الصين لم تعد دولة نامية أو من دول العالم الثالث، وإنما دولة متقدمة وغنية وقادرة وعليها أن تتعامل مع العالم، ويتعامل العالم معها، على هذا الأساس. وأن تتعامل أمريكا مع هذا العالم وقد أصبحت “عظيمة مرة أخري” – شعار الجمهوريين- أو “قائدة مرة أخري” – شعار الديمقراطيين- لم تعد قضية اختيار وإنما هي حصاد تجارب تاريخية تحدد الثمن الذي على الأمريكيين دفعه لكي تكون الدولة عظيمة أو قائدة أو كلاهما معا. ولا يمكن للقائد الأمريكي أن يتجاهل التقدم الذي حققه ترامب لا في تقييد التطور النووي الكوري الشمالي، ولا الحصار على النوايا والاتجاهات التوسعية الإيرانية.

بعيدا عن النقاشات والمهاترات الانتخابية فإنه لا يوجد في الواقع خلافات كبيرة في السياسات تجاه الشرق الأوسط سواء كانت سوف تأتي من ترامب أو بايدن. المسجل هو أن الولايات المتحدة كانت آخذة في الانسحاب من الشرق الأوسط خلال فترة أوباما، وأن بايدن أيد أهم أركان “صفقة القرن” التي نقلت السفارة الأمريكية إلي القدس، والتي دفعت دول عربية للتطبيع والسلام مع إسرائيل.  ولكن ربما كانت الحقيقة الأهم هي أن دول الشرق الأوسط ذاتها أصبح عليها حل مشاكلها بنفسها، وأنها لا ينبغي لها أن تظل أسيرة لشعارات جوفاء، وحنجريات عفي عليها الزمان. عملية السلام بما فيها المبادرة العربية للسلام لم تعد متوقفة على تحركات جماعية وإنما يمكن تحقيق جوهرها من خلال اتصالات وفعاليات ثنائية حسب ظروف ومصالح الدول المختلفة. لم يعد أحد أسيرا لوجهة النظر التي تري أن الدبلوماسية الجماعية لمؤتمر مدريد هي المثال الوحيد لحل مشكلة الشرق الأوسط المستعصية. فالحقيقة التاريخية هي أن المواجهة المباشرة ما بين مصر وإسرائيل والتي بدأها الرئيس السادات كانت هي التي فتحت الباب لتقليص الإمبراطورية الإسرائيلية. والتقدم الذي حدث بين الأردن وإسرائيل وأدي إلى معاهدة سلام كان في جوهره ثنائيا؛ ولم تكن أسلو أكثر من اعتراف متبادل ومفاوضات مباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وسواء كان التقدم في العلاقات العربية الإسرائيلية يأتي عن طريق “منتدى شرق البحر الأبيض المتوسط” أو مبادرات ثنائية بين الإمارات والبحرين من ناحية وإسرائيل من ناحية أخري، أو عبر وساطات أمريكية وإماراتية بين السودان وإسرائيل فإن ما ينجم عن هذه التفاعلات سوف يكون موضع ترحيب وإقبال من كل الإدارات الأمريكية. 

الخلاصة هي أن العالم بأقاليمه المختلفة قد تغيرت كثيرة بفعل أخطار كبيرة وليست الكورونا إلا أكثرها شهرة، وبفعل نضج جري لدول؛ وهؤلاء الذين لا يزالون يعيشون في عوالم أخري مثل الذين يتقاتلون على إقليم “ناجورنو كارباخ” فإن أحدا في الولايات المتحدة جمهوريا كان أو ديمقراطيا سوف يذرف دمعة واحدة عليهم لا الآن ولا بعد الانتخابات. 

نقلا عن جريدة الشرق الأوسط، الأربعاء ٢٨ أكتوبر ٢٠٢٠ 

د. عبد المنعم سعيد
رئيس الهيئة الإستشارية