قبل أسبوع نشر د. معتز عبد الفتاح مقالا في الأهرام الغراء تحت عنوان «إنها الحرب على مصر» شرح فيها لستة أنواع من الحروب الجارية على الدولة المصرية حكومة وشعبا ونظاما. أطراف هذه الحرب نعرفها جميعا، وهي كما هي العادة في كل الحروب تقوم على توازن القوى بين طرفين في أبعاد شتى من القوة، كلها تشير إلى أن التوازن يقع من حيث القدرات المتنوعة الخشنة والناعمة لصالح الدولة المصرية. هدف المقال هنا هو التأكيد على واحد من هذه الأبعاد والقدرات التي نظنها هي الفيصل الفارق بين مصر وأعدائها، وهو المشروع الذي ينقل مصر من التخلف إلى التقدم، ومن التقليد إلى الحداثة، ومن الفقر إلى الغني. أقرب المعارك التي دارت مؤخرا جرت حول المشروع المصري للتعامل مع العشوائيات، فلم يكن ممكنا أن تقوم مصر ببناء المدن الكبرى الجديدة والعصرية، وتقوم بعمليات التحديث الشامل والجامع للقاهرة التراثية، وتتعامل مع بعض العشوائيات التي وقعت أمام الطرق والمشروعات الممتدة، أو تلك التي كانت في طريق مثلث ماسبيرو، أو تلك التي عرفت بالخطرة أو المميتة، وجرى إجلاؤها بشكل كامل إلى حيث توجد المعيشة الكريمة؛ لم يكن ممكنا أن يحدث ذلك كله، بينما تبقى أحوال العشوائيات الكبرى على ما هي عليه، ليس فقط لأنها مؤذية للنظر، أو للرفاهة المصرية المطلوبة، وإنما لأنها لم تعد مقبولة لمعيشة المصريين العظام. المعركة حدثت لأن الأعداء أو أهل الشر حاولوا استخدام القضية من زاوية الآلام المصاحبة لكل العمليات الجراحية التي لابد منها للإصلاح في مجال من المجالات، كما عرفنا من قبل في مجال التعليم والصحة والنظافة، حيث يصطدم الجديد والمتقدم مع القديم والتقليدي وأصحاب المصالح أو الخائفين من التغيير وكفي. وبينما كانت الهجمات كلها تركز على التشكيك والإعلان عن الظلم والتنويه بعدم الكفاءة وتأكيد أن تغيير العشوائيات ما هو إلا القهر الواقع على المواطن المصري؛ فإنها أغفلت أمرا مهما وهو هل أصبحت العشوائيات مقبولة، وهل عجزت الأمة عن التعامل مع مشكلة مستعصية، وما هو التصور أو الرؤية أو المشروع للتعامل معها؟ الإجابة في كل الأحوال هي بالنفي، فلا يوجد شيء كما كان الحال عندما حكم الإخوان مصر، وعندما جاءت الثورة إلى مصر.
لم يكن هناك مشروع ولا رؤية في مواجهة سنوات ست من المسيرة التي قطعت أشواطا بعيدة في البناء والتعمير، والانتقال من النهر إلى البحر، والمشروعات العملاقة التي لم تترك مجالا إلا اقتحمته أو تعرفت عليه استعدادا للاقتحام في مرحلة مقبلة. وعلى الأبواب الآن مشروعات جديدة لاقتحام سيناء بالزراعة والصناعة والسياحة بعد أن جاءت الأنفاق والطرق التي ربطت بين الوادي وشبه الجزيرة، وخليج العقبة وخليج السويس. خرجت مشروعات من ملفات المثلث الذهبي، واستغلال ما جرى من تطور في مشروع توشكي، والمضي قدما في تحقيق الاستغلال الأمثل لمياه النيل ومنع التسرب منها، وهكذا أمور. حصلت مصر على شهادتين بالغتى الأهمية: أنها عبرت أزمة كورونا بأكثر مما فعل الكثير من دول العالم المتقدم والنامي؛ وأنها خرجت من ذلك بمعدلات نمو هي الأعلى في المنطقة. د. محمد العريان في حديث مع القديرة لميس الحديدي وضع مصر والصين في مقدمة البلدان التي خرجت من الأزمة مرفوعة الرأس. الخلاصة أن المشروع المصري يسير في طريقه، ولم يعقه حتى الآن الأعداء أيا ما كان شكلهم ومهما يكن الرداء الذي يرتدونه ليس فقط لأنهم عامرون بالمهرجين، وإنما لأنه لا يوجد لديهم أمر واحد جاد يقدمونه إلى الشعب المصري.
المشروع المصري للتقدم هو إذن أهم وأمضى الأسلحة المصرية، وصورته الآن واضحة في الامتداد العمراني الذي يتجاوز بكثير مساحة المعمور في مصر والمقدرة 7% من مساحة مصر، واقتحام المشكلات التاريخية المستعصية، وباختصار كل ما يقف بين مصر وتقدمها في السنوات العشر المقبلة.
هذا التغيير واسع النطاق يحتاج التفكير في تشغيله التشغيل الأمثل الذي سوف يتضمن انطلاقا وانتقالا للسكان والأهم من ذلك كله تغيير ثقافة الفقر إلى ثقافة الثروة. بمعنى آخر كيف نجعل المصريين يعيشون في المناطق الأكثر حاجة للعمل والسكن، خاصة أن المدارس والجامعات والمراكز الصحية قد جرى تحضيرها للمرحلة القادمة. المتاحف والمناطق التاريخية والمسارات الدينية العظمى من رحلة السيد المسيح إلى رحلة السيدة زينب إلى مصر يجرى العمل فيها. الأمر هنا ليس فقط ترويجا للسياحة، وإنما هي ترويج لمصر أخرى متسامحة وقابضة على تاريخها الخاص الذي لا يوجد في دول أخري. ومن المعروف أنه كان مقررا أن يكون عام 2020عامًا رائجًا للسياحة في مصر. كان من المقرر افتتاح المتحف المصري الكبير هذا العام بعد ما يقرب من عقدين من التجهيز، مما دفع أحد المنشورات السياحية المرموقة إلى تسمية القاهرة كواحدة من أفضل المدن التي يجب زيارتها هذا العام. أصبح السفر في جميع أنحاء البلاد أسهل من أي وقت مضي، ومع إدخال التأشيرات الإلكترونية أخيرا، وافتتاح مطار سفنكس الجديد في الجيزة وطرق رحلات داخلية جديدة بين شرم الشيخ والأقصر، وهما من أهم مراكز السياحة في البلاد، يفتح الباب لعمل كثير.
تشغيل ما تم من تغييرات عميقة في البنية الأساسية، وهذه ليست كلها عمرانا وطاقة، وإنما هي تفكير فيما نحب أن تكون مصر عليه؛ وهي مصر مختلفة تماما عن كل ما عرفه العالم، ولا يزال يعزف عليه صباح مساء من لا يريدون بها خيرا. هنا سوف يكون السبق الجديد على كل من يريدون لنا البقاء في الخلف، أو يرغبون في أن تبقى الأمور كلها على ما هي عليه، أو يحاولون تفكيك تقدمنا كأمة بادعاء أن 14 مدينة حديثة والطرق الجديدة والكهرباء والطاقة المستمرة هي فقط للأغنياء من المصريين دون الفقراء. بالطبع عند تحقيق التشغيل في مجالات التغيير المختلفة فإن معنى ذلك سوف يكون أن مصر قد عبرت هذه الفجوة الملعونة التي يحاول الأعداء والنصابون والأفاكون استغلالها.
نقلا عن جريدة الأهرام، الأربعاء ١٤ أكتوبر ٢٠٢٠.